فلمّا انتقل الإسلام إلى المدينة واستقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيها، وبدأ الإسلام ينتشر، ويزحف، ويعلو، وقام المجتمع الإسلاميّ بجميع لوازمه، تغير الوضع ونجم النفاق ورفع رأسه، وكان ظاهرة طبيعية نفسية لا بدّ منها، فإنّما تظهر بادرة «النفاق» في بيئة تجمع بين دعوتين متنافستين، وقيادتين متقابلتين، هناك يوجد عنصر مضطرب يتأرجح بين هاتين الدعوتين، ويتردد في إيثار إحداهما على الآخرى، وقد ينحاز إلى دعوة، فيكون في معسكرها، ويعطيها ولاءه وحبّه العاطفيّ، إلا أنّ مصالحه المادية، وانتشار الدعوة المقابلة وانتصارها، لا يسمح له بإعلان موقفه، والانضواء إلى الدعوة الأولى، وقطعه للحبال التي تربطه ببيئته الأولى، وقد صوّر القرآن هذا الموقف المضطرب تصويرا دقيقا، فقال:
وكان على رأس هؤلاء المنافقين الذين كانوا من الأوس والخزرج واليهود عبد الله بن أبيّ ابن سلول، اتفقوا بعد حرب بعاث على أن يولّوه الرئاسة ويتوّجوه، وكان قد تمّ له كلّ ذلك إذ جاء الإسلام، وصار النّاس يدخلون في دين الله أفواجا، فشرق به وكرهه كرها شديدا، قال ابن هشام: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيّد أهلها عبد الله بن أبيّ ابن سلول العوفيّ.. لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل غيره من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه، ثمّ يملكوه عليهم،