للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكنّ هذا الشعور الإنسانيّ النبيل لم يستطع أن يقهر الشعور بمسؤوليّة النبوّة والدعوة والوقوف عند حدود الله، فقد روى أصحاب السّير أنّه لمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير- رضي الله عنهما- إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يحتزمن، ثمّ يذهبن، ويبكين على عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلن، ولمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة، خرج عليهنّ، وهنّ في باب المسجد يبكين، فقال: «ارجعن يرحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ» .

وروي أنّه قال: «ما هذا؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم، وقال لهم خيرا، وقال: ما هذا أردت، وما أحبّ البكاء» ونهى عنه «١» .

وأدقّ من هذه المواقف كلّها موقف وقفه مع وحشيّ، قاتل أسد الله وأسد رسوله حمزة- رضي الله عنه- فلمّا فتح الله للمسلمين مكة، ضاقت عليه المذاهب، وفكّر في اللحوق بالشّام واليمن وببعض البلاد، وأظلمت عليه الدّنيا، فقيل له: ويحك إنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتل أحدا من النّاس دخل في دينه، فتشهّد شهادة الحقّ، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه الإسلام، ولم يفزعه، وسمع منه قصة قتل حمزة، فلمّا فرغ من حديثه تحرّك فيه ذلك الشعور الإنسانيّ الرقيق، من غير أن يزاحم طبيعة منصب النبوّة الرفيع، فيرفض إسلامه أو يثور فيه الغضب، فيقتله شفاء للنفس، ولم يزد أن قال:

«ويحك غيّب عني وجهك، فلا أرينّك» ، قال وحشيّ: وكنت أتنكّب «٢» رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلّا يراني، حتّى قبضه الله صلى الله عليه وسلم «٣» .


- على الميت، برقم (١٥٩١) ، وأحمد في المسند (٢/ ٤٠) و (٢/ ٨٤) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما] وقال ابن كثير: «وهذا على شرط مسلم» .
(١) ابن كثير: ج ٣، ص ٩٦.
(٢) [أتنكّب: أي أتنحّى وأعرض عنه] .
(٣) ابن هشام: ج ٢، ص ٧٢، وروى البخاري هذه القصة في كتاب المغازي، باب قتل-

<<  <   >  >>