وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة، فهل درستم علم السّباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة- لا قدّر الله- كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟
قالوا: لا والله يا عمّ، هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به.
هنالك ضحك الملّاح وقال: إذا كنت ضيّعت نصف عمري، فقد أتلفتم عمركم كلّه، لأنّ هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنّما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه «١» .
هذه مهمّة النبوّة ودورها في إنقاذ البشريّة المشرفة على الغرق، وهذه طبيعة عمل الأنبياء والرسل، وامتيازه عن سائر أصناف التعليم والتربية، والترويح والتسلية، يمنحون الجيل البشريّ «علم النجاة» ويعلمونه فنّ السباحة، وتجديف سفينة الحياة.
إنّ التاريخ الإنسانيّ يدلّ دلالة واضحة على أنّه لما غرقت سفينة الحياة لفساد أخلاق الناس، وسيّئات أعمالهم، غرقت بكلّ ما فيها من مجموعة بشرية، ورصيد حضاريّ، ومحصول فكريّ، وإنتاج علميّ وفلسفيّ، وبكلّ ما فيها من روائع الشعر والأدب والبيان، وأنّ هذه السفينة لم تغرق أبدا من أجل الانحطاط الأدبيّ، وقلّة المدارس والجامعات، وفقدان التعليم العالي، أو من قلّة المال وانخفاض مستوى المعيشة، إنّها غرقت لأنّ الإنسان أعدّ نفسه للانتحار، إنّه صار معولا هداما لذلك البناء الذي فيه متاعه وأهله.
(١) القصة مقتبسة من كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» ص (٢٤) من الطبعة السابعة لدار القلم بدمشق.