للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

موازنة بين الاستعارات الثلاث:

الاستعارة المرشحة كما قلنا: ما ذكر فيها ما يلائم المستعار منه "أي: المشبه به", وهذا مما يزيد الاستعارة قوة مبالغة, ذلك أن مبنى الاستعارة كما علمت على تناسي التشبيه، وادعاء أن المشبه هو المشبه به عينه، لا شيء سواه, والترشيح الذي هو ذكر ملائم المشبه به: إمعان في هذا التناسي وغلو في دعوى الاتحاد، وكأن ليس هناك استعارة، بل ولا تشبيه، حتى إنك لتجد الشاعر أو الناثر, يمعن في إنكارهما، ويخيل للسامع: أن الأمر محمول على حقيقته، لا تجوز فيه. ألا ترى إلى قول أبي تمام:

ويصعد حتى يظن الجهول١ ... بأن له حاجة في السماء

استعار لفظ "الصعود" الذي هو العلو الحسي المكاني: لعلو المرتبة، ثم بنى كلامه على أنه صعود حسي حقيقة، إمعانا منه في تناسي التشبيه، وفي إنكار أن هناك استعارة فذكر ما يلائم الصعود الحسي: من ظن الجهول بحقائق الأشياء: أن له حاجة ينشدها في السماء, ولولا أنه قصد أن يتناسى الاستعارة, ويصر على إنكارها إصرارا، وأنه جعل الممدوح صاعدا في السماء صعودا حسيا مشاهدا -ما كان لهذا الكلام وجه- ومثله قول أبي الطيب السابق:

ولم أر قبلي من مشى البحر نحوه ... ولا رجلا قامت تعانقه الأسد

فنفيه أن يرى "البحر" يمشي إلى إنسان "وأن يرى الأسود تعانق رجلا مبني على أنه أراد: المعنى الحقيقي لهما مبالغة, إذ لم يعهد أن يسعى البحر نحو إنسان، أو أن تعانقه الأسود, فكل ذلك بمني على الإمعان في تناسي التشبيه، والغلو في إنكار الاستعارة, يؤيد ذلك قول ابن العميد يصف غلاما قام يظلله من حر الشمس.


١ إن في التعبير "بالجهول" فضل مبالغة في المدح لما فيه من الإشارة إلى أن هذا الوصف إنما هو في ظن الجهول لنقصان عقله, أما العاقل فيعرف أن لا حاجة له في السماء لاتصافه بسائر الكمالات, فإفراطه في العلو إنما هو لمجرد التعالي على الأنداد.

<<  <  ج: ص:  >  >>