للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن كانت الحال ذكاء في المخاطب كان المقتضى هو الإيجاز في الكلام، والإتيان بالاعتبارات اللطيفة، والمعاني الدقيقة, اعتمادًا على هذا الذكاء, وإن كانت الحال عبارة فيه كان المقتضى هو الإطناب في القول, والإتيان بالمعاني الصريحة الواضحة لأن ذلك هو الموافق لحال الغبي ... وهكذا: لكل مقام مقال, فللسوقة كلام لا يصح لسراة القوم وأمرائهم, وللذكي خطاب لا يناسب الغبي، وفي مواقف الحروب أو الوعيد والتهديد كلام يخالف ما يقال في مواطن توديع الأحبة, وبث الأشواق، وذكر أيام الفراق، وما قارب ذلك من معاني الاستعطاف والمعاذير, ففي الأول يستعمل اللفظ الضخم، والمعنى الفخم، وفي الثاني يستعمل اللفظ الرقيق الحاشية، الناعم الملمس، اللطيف الموقع, وإن لنا في القرآن والحديث لخير قدوة في استعمال ما يناسب المقام من فنون الكلام.

تنبيهان:

الأول: مما تقدم تعلم أن مراتب البلاغة تتفاوت في العلو والانحطاط بتفاوت مراعاة تلك المقتضيات، والاعتبارات المناسبة للمقام. فكلما كانت رعاية تلك المقتضيات أوفى بالغرض, وأليق بالمقام كان الكلام أبلغ وأسمى, وكلما كانت تلك الرعاية أقل وفاء, وأبعد لياقة كان الكلام أحط مرتبة وأقل بلاغة, فإذا كنت مثلا تخاطب ذكيا منكرا لحكم من الأحكام وجب أن تراعي في خطابك ذكاءه وإنكاره معًا، فتعطي له من الكلام ما يناسب ذكاءه من الإيجاز، وما يلائم إنكاره من التأكيد، فإذا راعيت ذلك كان كلامك أبلغ وأسمى مكانة؛ لأنه أكمل مطابقة لمقتضى حال الخطاب. وإن راعيت في الخطاب معه أحد الأمرين بأن أوجزت ولم تؤكد، أو أكدت ولم توجز كان كلامك أقل بلاغة وأدنى مكانة، فإن لم تراع الأمرين جميعًا كان كلامك عاطل الجيد من حلية البلاغة, وكاد يلتحق بأصوات الحيوان.

<<  <  ج: ص:  >  >>