للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثال الثاني قول الراوندي:

كم عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا

يقول: كثير من ذوي الرأي والحجا ضاقت بهم سبل العيش الرغيد، وسدت في وجوههم مسالك الحياة الهنيئة, بينما نرى الكثير من ذوي الجهل في بسطة من العيش، وسعة في الرزق، وهذا الأمر لبعده في بادئ الرأي عن مظان الحكمة والصواب، وخروجه عن العرف المألوف, خليق أن يترك العقول حائرة، ويجعل العالم الراسخ في العلم زائع العقيدة، مسلوب الرشاد, والشاهد قوله: "هذا الذي" حيث أتى بالمسند إليه اسم إشارة لقصد تمييزه تمييزا كاملا لما اختص به من هذا الحكم البديع، وهو ترك العقول حائرة, والعالم النحرير زنديقا.

٢- أن يقصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرا ويفتخر عليه:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

يريد: أن جريرا لا يستطيع أن يأتي بمثلهم آباء ذوي مجد وحسب إذا جمعتهما مجامع الفخر والمساجلة, والشاهد قوله: "أولئك آبائي" حيث أورد المسند إليه اسم إشارة قصدا إلى أن يصمه بوصمة الغباوة, وأنه لا يدرك إلا المحس بحاسة البصر, ولو أنه ذكر آباءه بأسمائهم، فقال: فلان، وفلان وفلان آبائي لم يكن فيه ما أراده من التعريض عند من له ذوق سليم, والأمر في قوله: "فجئني" أمر تعجيز على حد قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أي: إنك لن تستطيع يا جرير أن تأتي بمثلهم في مناقبهم إذا جمعتنا مجامع المساجلة يوما ما١.


١ لا يبعد أن تكون نكتة التعبير باسم الإشارة في بيت الفرزدق تمييزهم أكمل تمييز أو تعظيم شأنهم على ما سيأتي، بل قد يبدو ذلك واضحا.

<<  <  ج: ص:  >  >>