للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأي بناء أرفع وأعظم من سماء هي صنع يد ذلك المبدع القادر؟ وإنا لنعلم أن آثار المؤثر الواحد متشابهة لا تختلف, ومثل بيت الفرزدق قولك: "الذي بنى سراي القبة بنى لنا هذه الفلة"١، ففيه من غير شك إشارة إلى التعريض بتعظيم شأن "الفلة" وأنها فخمة البناء دقيقة الصنع, ولو أنه عبر عن هذا التعبير فقيل مثلا: إن الله بنى لنا بيتا٢، أو قيل: إن الذي بنى بيت٣ فلان بنى لنا فلة، لتعطل جيد العبارتين من تلك الحلية البلاغية لخلو الأولى من الإشارة إلى نوع الخبر, وخلو الثانية من التعريض بتعظيم شأنه، وإن أشير فيه إلى جنسه.

ومثال ما فيه تعرض بإهانته قولك: "إن الذي لا يحسن قرض الشعر أنشأ قصيدة" ففي الموصول إشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من نوع التأليف والإنشاء لكن ليس هذا هو الغرض، وإنما المقصود التوسل بهذه الإشارة إلى التعريض بتحقير هذه القصيدة، وأنها من النوع المبتذل الساقط؛ لأنها صنع من لا يحسن التأليف في الشعر.

وقد يكون التعريض بتعظيم شأن غير الخبر، أو التعريض بإهانته, مثال الأول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} ففي

صلة الموصول إشارة إلى أن الخبر من نوع الخيبة والخسران، وذلك أن شعيبا نبي فتكذيبه يفضي إلى هذه الصفة الخاسرة, لكن المقصود من هذا إنما هو الإيماء إلى التعريض بتعظيم شأن شعيب عليه السلام إذ إن تكذيبه أوجب هذا الخسران المبين, ولفظ "شعيب" واقع في جملة الصلة، لا في جملة الخبر فالتعريض هنا بتعظيم شأن غير الخبر, ومثال الثاني قولهم: "إن من يتبع الشيطان خاسر" ففي الصلة إيماء إلى أن الخبر من نوع الخزي والخذلان؛ لأن الشيطان ضال مضل فاتباعه ضرب من التخاذل والاندحار, غير أن الغرض هو التعريض بتحقير شأن الشيطان من حيث إن اتباعه يفضي


١ اسم لبناء على صورة شاعت في هذا العصر.
٢ قد يقال إن تعظيم البيت يفهم من لفظ الجلالة, وإن لم يكن فيه إيماء إلى نوع الخبر, إلا أن يقال إن التعظيم بواسطة الإيماء أتم منه بدونه.
٣ أي: على فرض أن بيت فلان ليس على طراز ممتاز حتى لا يكون فيه تعريض بتعظيم الخبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>