للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثال التحقير قولهم: "شعور بالكرامة منجاة من مواقف الذل", وقد اجتمعا في قول مروان بن أبي حفصة:

له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب١

يقول: إنه من النزاهة والطهر بحيث يحول دون ما يشينه حجاب عظيم٢ وهو -إلى جانب هذا- في متناول أيدي العفاة: ما استقصاه ذو لبانة إلا قضى حاجته وسد خلته, والشاهد في لفظي "حاجب" في شطري البيت حيث أتى بهما منكرين, أما في الشطر الأول فلقصد تعظيم الحائل دون ما يشينه، وأنه في حصن حصين من كل ما يزري به، وأما في الشطر الثاني فلقصد تحقير ما يحول بينه وبين قاصديه كناية عن أن بابه مفتوح على مصراعيه لمن يريد الولوج، فليس هناك أدنى مانع يحجبهم عن فضله ومعروفه٣, ومثله قول الشاعر:


١ "يشينه" من الشين هو القبح، "والعرف" المعروف والإحسان غير أن الحجب يتعدى إلى المفعول الثاني بعن, وأما المفعول الأول فيتعدى إليه بنفسه يقال: حجبت فلانا عن الأمر, وإذا "فحاجب" الأول جاء على أصله؛ لأن صلته محذوفة "وفي كل أمر" ظرف مستقر صفة لحاجب أي: له حاجب عن ارتكاب ما لا يليق في كل أمر يشينه, أو تجعل "في" بمعنى "من" وأما "حاجب" الثاني فعلى خلاف الأصل؛ لأن العرف مفعوله الثاني والطالب له مفعوله الأول, والحاجب إنما يحجب الطالب عن العرف لا الممدوح عن الطالب كما هو ظاهر الشطر الثاني من البيت ففي العبارة قلب قضت به الضرورة, وقبل هذا البيت:
فتى لا يبالي المدلجون بناره ... إلى بابه ألا تضيء الكوكب
يصم عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا ذكرت في مجلس القوم غائب
٢ أخذ معنى التعظيم من كون المقام مقام مدح, وأنه إذا هم بفعل ما لا ينبغي حال دونه مانع, وإذا طلب منه معروف لم يحل دون بذله مانع ضئيل فضلا عن التعظيم فهو في غاية الكمال.
٣ قيل يحتمل أن يكون التنكير في الشطر الثاني لقصد الفردية كما في نحو {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بل هذا الاحتمال أولى لدلالة التركيب على نفي جميع الأفراد مطابقة, ورد هذا بأن حمل التنكير فيه على التحقير أولى لما فيه من سلوك طريق البرهان, وهي إثبات الشيء بدليل لاستفادة انتفاء الحاجب العظيم من انتفاء الحقير بالطريق الأولى مع حسن مقابلة تنوين التعظيم في الشطر الأول بتنوين التحقير في الثاني وهو محسن بديعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>