والبدو والحضر، على ضربين: منها الطّوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويا في الجودة، ومتشاكلا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان، والنّتف الجياد.
وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حظه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع. وقد أعطينا كل شكل من ذلك قسطه من الاختيار، ووفيناه حظه من التمييز، ونرجو ألا نكون قصرنا في ذلك. والله الموفق.
هذا سوى ما رسمنا في كتابنا هذا من مقطعات كلام العرب الفصحاء وجمل كلام الأعراب الخلص، وأهل اللسن من رجالات قريش والعرب، وأهل الخطابة من أهل الحجاز، ونتف من كلام النساك، ومواعظ من كلام الزهاد، مع قلة كلامهم، وشدة توقّيهم. وربّ قليل يغني عن الكثير، كما أن ربّ كثير لا يتعلق به صاحب القليل. بل رب كلمة تغني عن خطبة، وتنوب عن رسالة.
بل رب كناية تربي على افصاح، ولحظ يدل على ضمير، وإن كان ذلك الضمير بعيد الغاية، قائما على النهاية. ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا، ولذلك القدر لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلّم من فساد التكلف، كان قمينا بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع، وأجدر أن يمنع جانبه من تناول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، وألا نزال القلوب به معمورة، والصدور مأهولة. ومتى كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متخيرا من جنسه، وكان سليما من الفضول، بريئا من التعقيد، حبّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول.
وهشّت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفّ على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريّض. فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة، ومصلحة حال الخاصة، وكان ممن يعمّ ولا يخصّ، وينصح ولا يغش، وكان مشغوفا بأهل الجماعة، شنفا «١» لأهل الاختلاف والفرقة، جمعت له الحظوظ من