أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مرّ أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنه. موصول كلالهم بكلالهم: كلال الليل بكلال النهار. قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم، وأنوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله، حتى إذا رأوا السهام قد فوّقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد أنتضيت، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشباب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله. ثم قال: آه آه (ثلاثا) . ثم بكى ونزل.
[خطبة قطري بن الفجاءة]
صعد قطريّ بن الفجاءة منبر الأزارقة- وهو أحد بني مازن بن عمرو بن تميم- فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه ثم قال:
أما بعد فإني أحذّركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات، وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها، غرّارة ضرارة، خوّانة غدّارة، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكّالة غوّالة، بدّالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال الله: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً.
مع إن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا اعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا، ولم تطلّه غبية رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، وحرى إذا أضحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة وإن جانب منها أعذوذب واحلولى، أمرّ عليه منها جانب وأوبى «١» ، وإن آتت أمرأ من