وروى الأصمعي وابن الأعرابي، عن رجالهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إنا معشر الأنبياء بكاء» ، فقال ناس: البكء: القّلة. وأصل ذلك من اللبن.
فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول.
قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخلقة، وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني. والقلة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل، والإشفاق من التكلف، وعلى تصديق قوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
، وعلى البعد من الصنعة، ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادة تناسب الطبيعة. وتكون من جهة العجز ونقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الإهتداء إلى جياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ. ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى عليه السلام حين قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً.
فلو كانت تلك القلة من عجز كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أحق بمسألة إطلاق تلك العقدة من موسى، لأن العرب أشد فخرا ببيانها، وطول ألسنتها، وتصريف كلامها، وشدة إقتدارها. وعلى حسب ذلك كانت زرايتها على كل من قصّر عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال.
وقد شاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وخطبه الطوال في المواسم الكبار، ولم يطل التماسا للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوه إذا افتنت، كثر عدد اللفظ، وإن حذفت فضوله بغاية الحذف.