وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة «١» ، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء.
ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتيانيّ متغزّل.
وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن نجيم، وأبي مالك عمرو ابن كركرة «٢» مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده. وكان خلف يجمع ذلك كله.
ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه أعراب. ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الإستخراج. ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل. ورأيت عامتهم- فقد طالت مشاهدتي لهم- لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر