وقال رجل مرة:«أبي الذي قاد الجيوش، وفتح الفتوح، وخرج على الملوك، واغتصب المنابر» . فقال له رجل من القوم: لا جرم، لقد أسر وقتل وصلب! قال: فقال له المفتخر بأبيه: دعني من أسر أبي وقتله وصلبه، أبوك أنت حدث نفسه بشيء من هذا قط؟
[[البيان منزلة بين الإسهاب والإيجاز]]
قد سمعنا رواية القوم واحتجاجهم، وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيها طبيعة، وإنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة، ويستبد بها سوء العادة. وإن كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة المنّة يوم الحفل، فلا تقصر في التماس أعلاها سورة «١» ، وأرفعها في البيان منزلة. ولا يقطعنّك تهييب الجهلاء، وتخويف الجبناء، ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها، المتأولة على أقبح مخارجها.
وكيف تطيعهم بهذه الروايات المعدولة، والأخبار المدخولة، وبهذا الرأي الذي ابتدعوه من قبل أنفسهم، وقد سمعت الله تبارك وتعالى، ذكر داود النبي صلوات الله عليه، فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
إلى قوله:
وَفَصْلَ الْخِطابِ
. فجمع له بالحكمة البراعة في العقل، والرجاحة في الحلم، والاتساع في العلم، والصواب في الحكم، وجمع له بفصل الخطاب تفصيل المجمل، وتلخيص الملتبس، والبصر بالحزّ في موضع الحز، والحسم في موضع الحسم.
وذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله شعيبا النبي عليه السلام، فقال:«كان شعيب خطيب الأنبياء» . وذلك عند بعض ما حكاه الله في كتابه، وجلاه لأسماع عباده.