ومن الخطباء المشهورين في العوامّ، والمقدمين في الخواصّ: خالد بن صفوان الأهتمي، زعموا جميعا أنه كان عند أبي العباس أمير المؤمنين وكان من سمّاره وأهل المنزلة عنده، ففخر عليه ناس من بلحارث بن كعب وأكثروا في القول، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وأهله قال: فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته فقل. قال خالد:«وما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد، ودابغ جلد، وسائس قرد، وراكب عرد «١» ، دل عليهم هدهد، وغرّقتهم فأرة، وملكتهم امرأة» . فلئن كان خالد قد فكر وتدبر هذا الكلام إنه للراوية الحافظ، والمؤلف المجيد، ولئن كان هذا شيئا حضره حين حرّك وبسط فما له نظير في الدنيا.
فتأمل هذا الكلام فإنك ستجده مليحا مقبولا، وعظيم القدر حليلا. ولو خطب اليماني بلسان سحبان وائل حولا كريتا «٢» ، ثم صكّ بهذه الفقرة ما قامت له قائمة.
وكان أذكر الناس لأول كلامه، وأحفظهم لكل شيء سلف من منطقه.
وقال مكيّ بن سوادة في صفته له:
عليم بتنزيل الكلام ملقّن ... ذكور لما سدّاه أول أولا
يبذّ قريع القوم في كل محفل ... وإن كان سحبان الخطيب ودغفلا
ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين أجدلا
الكروان: جمع كروان، وهو ذكر الحبارى. والأجدل: الصقر وكان يقارض شبيب بن شيبة، لاجتماعهما على القرابة والمجاورة والصناعة، فذكر شبيب مرة عنده فقال:«ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية» . وهذا كلام ليس يعرف قدره إلا الراسخون في هذه الصناعة.