أقطارها، وسيقت إليه القلوب بأزمتها، وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته، وجبلت على تصويب إرادته. ومن أعاره الله من معونته نصيبا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا، جلبت إليه المعاني، وسلس له النظام، وكان قد أعفى المستمع من كد التكلف، وأراح قارىء الكتاب من علاج التفهم. ولم أجد في خطب السلف الطيب والأعراب الأقحاح، ألفاظا مسخوطة، ولا معاني مدخولة، ولا طبعا رديئا، ولا قولا مستكرها. وأكثر ما تجد ذلك في خطب المولدين، وفي خطب البلديين المتكلفين، ومن أهل الصنعة المتأدبين، وسواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب، أم كان من نتاج التحبير والتفكير.
[[طبقات الشعراء]]
ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا «١» ، وزمنا طويلا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهاما لعقله، وتتبعا على نفسه، فيجعل عقله، زماما على رأيه، ورأيه عيارا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازا لما خوله الله تعالى من نعمته. وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات، والمقلّدات، والمنقّحات، والمحكّمات، ليصير قائلها فحلا خنذيذا، وشاعرا مفلقا.
وفي بيوت الشعر الأمثال والأوابد، ومنها الشواهد، ومنها الشوارد.
والشعراء عندهم أربع طبقات. فأولهم: الفحل الخنذيذ. والخنذيذ هو التام. قال الأصمعي: قال رؤبة: «الفحولة هم الرواة» . ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك قال الأول في هجاء بعض الشعراء:
يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مفحم لا أنطق