بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر. ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارا من أفواه جلسائه، ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر. وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيدا، لمكان أعراقهم من أولئك الآباء.
ولولا أن أكون عيابا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة! قال ابن المبارك: كان عندنا رجل يكنى أبا خارجة، فقال له: لم كنوك أبا خارجة؟ قال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة.
وكان عندنا شيخ حارس من علوج الجبل، وكان يكنى أبا خزيمة، فقلت لأصحابنا: هل لكم في مسألة هذا الحارس عن سبب كنيته، فلعل الله أن يفيد من هذا الشيخ علما وإن كان في ظاهر الرأي غير مأمول ولا مطمع! وهذه الكنية كنية زرارة بن عدس، وكنية خازم بن خزيمة، وكنية حمزة بن أدرك، وكنية فلان وفلان، وكل هؤلاء إما قائد متبوع، وإما سيد مطاع، فمن أين وقع هذا العلج الألكن على هذه الكنية! فدعوته فقلت له: هذه الكنية كناك بها إنسان أو كنيت بها نفسك؟ قال: لا، ولكني كنيت بها نفسي! قلت: فلم اخترتها على غيرها؟ قال: وما يدريني! قلت: ألك ابن يسمى خزيمة؟ قال:
لا. قلت: أفكان أبوك أو عمك أو مولى لك يسمى خزيمة؟ قال: لا.
قلت: فاترك هذه الكنية واكتن بأحسن منها وخذ مني دينارا! قال: لا والله ولا بجميع الدنيا!! أعطى المحلول ابنه درهما وقال: زنه، فطرح وزن درهمين وهو يحسبه وزن درهم، فلما رفعه وجده زالّا «١» ، فألقى معه حبتين، فقال له أبوه: كم فيه؟ قال: ليس فيه شيء، وهو ينقص حبتين!