للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي هذه الأحوال يوم يولد [١] فَيَخْرُجُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عاينهم، ويوم يبعث حيا فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَخَصَّ يَحْيَى بِالسَّلَامَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ

، فِي الْقُرْآنِ، مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ

، تَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ، مِنْ أَهْلِها

، مِنْ قَوْمِهَا، مَكاناً شَرْقِيًّا

، أَيْ مَكَانًا فِي الدَّارِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَكَانَ يَوْمًا شَاتِيًا شَدِيدَ الْبَرْدِ فَجَلَسَتْ فِي مَشْرُقَةٍ تَفْلِي رَأْسَهَا. وَقِيلَ: كانت طهرت من الحيض، فَذَهَبَتْ لِتَغْتَسِلَ [٢] . قَالَ الْحَسَنُ: وَمِنْ ثم اتخذ النصارى المشرق قبلة.

فَاتَّخَذَتْ

، فَضَرَبَتْ، مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً

، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سِتْرًا. وَقِيلَ:

جَلَسَتْ وَرَاءَ جِدَارٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَاءَ جَبَلٍ.

قال عِكْرِمَةُ: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا حَاضَتْ تَحَوَّلَتْ إِلَى بَيْتِ خَالَتِهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَبَيْنَمَا هي تغتسل من الحيض قد تجردت [عن ثيابها] إِذْ عَرَضَ لَهَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءَ الْوَجْهِ جَعْدَ الشَّعْرِ سَوِيَّ الْخَلْقِ، فَذَلِكَ قوله: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا

[يعني جبريل عليه السلام] [٣] ، وقيل: المراد بالروح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَ فِي صُورَةِ بَشَرٍ فَحَمَلَتْ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَلَمَّا رَأَتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ يَقْصِدُ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ:

[[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٨ الى ٢٢]]

قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢)

وقالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

(١٨) ، مُؤْمِنًا مُطِيعًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْفَاجِرِ، فَكَيْفَ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا؟ قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْنِي أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِيمَانُكَ مَانِعًا مِنَ الظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا مَعْنَاهُ: وَيَنْبَغِي أن يكون تَقْوَاكَ مَانِعًا لَكَ مِنَ الْفُجُورِ.

قالَ

، لَهَا جِبْرِيلُ، إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ

، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: لِيَهَبَ لَكِ أَيْ لِيَهَبَ لَكِ رَبُّكِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: لِأَهَبَ لَكِ

أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ، غُلاماً زَكِيًّا

، وَلَدًا صَالِحًا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ.

قالَتْ، مَرْيَمُ، أَنَّى، مِنْ أَيْنَ، يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، لَمْ يَقْرَبْنِي زَوْجٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، فاجرة، تريد أن الولد إنما يَكُونُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

قالَ، جِبْرِيلُ، كَذلِكِ، قِيلَ مَعْنَاهُ كَمَا قُلْتِ يَا مَرْيَمُ وَلَكِنْ، قالَ رَبُّكِ، وَقِيلَ هَكَذَا قَالَ رَبُّكِ، هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أَيْ: خَلْقُ وَلَدٍ بِلَا أَبٍ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً، علامة، لِلنَّاسِ، [و] دلالة عَلَى قُدْرَتِنَا، وَرَحْمَةً مِنَّا، وَنِعْمَةً لِمَنْ تَبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَكانَ ذَلِكَ، أَمْراً مَقْضِيًّا، مَحْكُومًا مَفْرُوغًا منه [٤] لا يرد ولا يبدل.


(١) في المطبوع «ولد» .
(٢) تصحف في المطبوع «لتغسل» .
(٣) وقعت العبارة في المطبوع قبل لفظ «فتمثل» .
(٤) في المطبوع «عنه» .

<<  <  ج: ص:  >  >>