(٢) هذا استثناء من الضابط الخامس: فالأصل تحريم تأخير قبض أحد العوضين في بيع جنسين اتفقا في علة ربا الفضل إلا إذا كان أحد العوضين نقداً كذهب أو فضة، فيجوز تأخير قبض أحد العوضين، ولا يبطل العقد ولو كان الثاني موزوناً، كبيع حديد بفضة، فيجوز تأخير القبض في أحدهم؛ الكون الفضة أحد الثمنَين.
(تتمة) ظاهر كلام الماتن أنه لا يستثنى مما استثناه شيء، فيشمل هذا ما لو صرف فلوساً بنقد - أي بذهب أو فضة -، فيجوز التفرق قبل القبض، وهو ما مشى عليه في الإقناع حيث قال: (وإن كان أحدهما نقداً فلا، ولو في صرف فلوس نافِقة به، اختاره الشيخ وغيرُه خلافاً لما في التنقيح. انتهى)، والذي قاله في التنقيح - وجعله في الإنصاف المذهبَ، وقدمه في المبدع والفروع وغيرهما، وتابعهم المنتهى، وكذا الغاية وقال: (خلافاً له) -: أنه إذا صرف فلوساً بنقد اشترط الحلول والتقابض قبل التفرق، قالوا: إلحاقاً للفلوس هنا بالنقد، فالفلوس قد نصوا كلهم في أول الربا أنها قد انتقلت - بتصنيعها من الحديد أو النحاس إلى فلوس - من الوزن إلى العد. وعندنا مسألتان: الأولى: مبادلة الفلوس بالأثمان: فاشترط صاحب المنتهى ومن معه - وهو المذهب - القبضَ قبل التفرق إلحاقاً لها بالنقدين، كما نص على ذلك البهوتي في شرح المنتهى (٣/ ٢٦٠) في باب الربا، وكذا في الكشاف (٨/ ٩٠) في باب السلم حيث قال: (تقدم لك في الربا أنها - أي: الفلوس - ملحقة بالأثمان على الصحيح. انتهى)، فجعلوا العلة فيها الثمنية. الثانية: مبادلة فلوس بفلوس: فهذه نصوا على أنه يجوز فيها التفاضل؛ لخروج الفلوس من الوزن إلى العد، قال في الإقناع وشرحه (٨/ ٨): (وكذا يجوز بيع فَلْس بِفَلْسين عدداً ولو نافقة؛ لأنها ليست بمكيل ولا موزون، أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد قال: «لا بأس بالفَلْس بالفَلْسين يداً بيد»، وأخرج عن حماد مثله، ونص أحمد: لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينتين). والمراد: ما دخلته الصناعة وحوَّلته من الوزن إلى غيره، فلا يجري فيه الربا، وهو منصوص الإمام، وألحقوا به الفلوس. لكن منصوص الإمام في الفلوس خاصة: بأنه يجري فيها ربا الفضل، وحتى هذه الرواية تدل على أن العلة في جريان الربا إنما هو الوزن، كما صرح به رحمه الله. ولم يصرحوا في جريان ربا النسيئة في مبادلة الفلوس بالفلوس، لكنه داخل في عموم قاعدتهم: (لا يجري الربا فيما لا يوزن لصناعته)، فيدخل فيه ربا الفضل وربا النسيئة، فيجوز مبادلة الفلوس بالفلوس بالتفاضل وبالنسيئة. وعليه فالأوراق النقدية لا ربا في مبادلة بعضها ببعض؛ لعدم وزنها. والأوراق النقدية كالريالات ليست مغطاة في الوقت الحالي، أي: ليس هناك في المصارف ما يقابلها من الذهب والفضة، وهي مشكلة على المذهب، وإن كان بعضهم وجد لها تخريجاً. والقول الآخر: العلة في النقدين الثمنية، فكل ما كان ثمناً فهو ربوي كالأوراق النقدية، والأوراق النقدية أجناس فالريال جنس والدولار جنس آخر. فيصح على هذا القول بيع الدولار بالريال متفاضلاً، لكن بشرط التقابض. وقد أبى الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - إلحاقَ الأوراق النقدية بالنقدين في فتاواه (ص ٣٣٢ - ٣٤٩)؛ لاختلافها عن النقدين باعتبارات عديدة، فلا يجري فيها الربا، ورجح أنها عروض، وقرر أنها تجب فيها الزكاة لمن ملك نصاباً منها، كما أنها تجعل صاحبَها غنياً لا يستحق الزكاة إذا كفته مؤنته ومن يعوله؛ لكنه حرم فيها إقراض مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة، ص (٣٣٧). والله أعلم. (بحث وتحرير)