للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحقيقة أنَّ ما قام به ابن قيم الجوزية من تصنيف للعبادة، وحصر لمراتبها، وما ألحق بذلك من منازل لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] (١)، وبالنظر للعبادة نفسها ووقتها وما يتعلق بها، كلُّ ذلك يعطي الدلالة الواضحة على شمول العبوديَّة في الإسلام، لكل ما يأتي المكلف ويذر من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وأنَّه مسؤول عن جميع تصرفاته: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: ٣٦]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: ١٨].

وبهذا المفهوم الشامل للعبادة (عَرَفَ المسلمون الأولون معنى العبادة فكانوا عبادًا للَّه حقًّا، وكان وصف العبوديَّة جليًّا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عبادات. . . إذ كانوا لا يتحركون تحركًا ولا يسكنون سكونًا إلَّا ويستشعرون رضاء اللَّه عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة، ولمَّا ضعف هذا المفهوم في نفوس من بعدهم، وخفت ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيًّا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات، وكان هذا التحول والبعد متنوعًا فيهم، ومتفاوتًا بينهم، فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه وغيره. . . وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع اللَّه، فخرجوا بذلك عن الجادة) (٢).

* * *


(١) وانظر: المرجع السابق نفسه ١/ ١٣٨ وما بعدها.
(٢) محمد أبو الفتح البيانوني: تحول العبادات إلى عادات. . . ص ١٨٩، (مرجع سابق). وانظر: سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي: ص ١٣١ - ١٣٥، الطبعة الرابعة، ١٣٩٨ هـ - ١٩٧٨ م، عن دار الشروق، بيروت، وانظر: الشاطبي: الاعتصام ٢/ ٤٤٣، تحقيق: أحمد عبد الشافي (مرجع سابق).

<<  <  ج: ص:  >  >>