ثانيًا: الدافع المادي: لعل فيما أورده ابن خلدون في مقدمته عن ضرورة الاجتماع البشري ما يوضح هذا الدافع، إذ قال:(إن اللَّه سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أنَّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه، وهو قوت يوم من الحنطة -مثلًا- فلا يحصل إلا بعلاج كثير، من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات، لا تتم إلا بصناعات متعددة، من حداد ونجار وفاخوري، وهب أنه يأكل حبًّا من غير علاج، فهو يحتاج في تحصيله -أيضًا- حبًّا، إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدّراس الذي يخرج الحب من غلاف السنابل، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة. . . ويستحيل أن يفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصِّل القوت له ولهم)(١).
ثالثًا: الدافع الأمني: ويمضي ابن خلدون في مقدمته مبينًا دافعًا آخر من دوافع الاجتماع البشري، وهو الدافع الأمني فيقول: (وكذلك يحتاج كل واحد منهم -أيضًا- في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه؛ لأن اللَّه -سبحانه وتعالى- لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان، فقدرة الفرس -مثلًا- أعظم بكثير من قدرة الإنسان، وكذا. . . قدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته، ولما كان العدوان طبيعيًا في الحيوان، جعل
(١) مقدمة ابن خلدون: ص: (٤١، ٤٢)، (مرجع سابق). وانظر: محمد رأفت سعيد: المرجع السابق نفسه: ص: (٢٠).