وَبَحَثَ فِيهِ الرَّافِعِيُّ بِمَا أَجَبْت عَنْهُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فَوَقَعَ رَجْعِيًّا لَا بَائِنًا نَعَمْ إنْ فَهِمَتْ مِنْ كَلَامِهِ الْوَعْدَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِبْرَاءِ فَقَصَدَتْ جَعْلَ الْإِبْرَاء فِي مُقَابَلَتِهِ اُحْتُمِلَ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ وُقُوعُهُ بَائِنًا إنْ صَحَّ الْإِبْرَاء وَإِلَّا فَبِمَهْرِ الْمِثْلِ سَوَاءٌ وَافَقَهَا الزَّوْجُ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ أَمْ لَا وَاحْتُمِلَ وَهُوَ الْأَوْجَه عَدَمُ النَّظَرِ لِقَصْدِهَا هُنَا وَفَارَقَ قَوْلَهَا طَلِّقْنِي وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِي.
الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ بَحْثَهُ السَّابِقَ بَانَ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِي شَرْطٌ يَقْتَضِي الْتِزَامَ عِوَضٍ فِي مُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَائِنًا بِالْبَرَاءَةِ إنْ صَحَّتْ وَإِلَّا فَبِمَهْرِ الْمِثْلِ وَأَمَّا لَفْظُهَا هُنَا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْطِيَّةٍ وَلَا الْتِزَامِ عِوَضٌ فَخَلَا عَنْ الْمُعَاوَضَةِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَعِنْدَ خُلُوِّ لَفْظِ الزَّوْجَةِ عَنْهَا كَذَلِكَ لَا تُمْكِنُ الْبَيْنُونَةُ وَمُجَرَّدُ قَصْدِهَا الْعِوَضِيَّةُ مَعَ عَدَمِ دَلَالَةِ لَفْظِهَا عَلَيْهَا لَا يُؤَثِّرُ وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ نِيَّةُ الزَّوْجِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا لِأَنَّ طَلَاقَهُ بَعْد الْإِبْرَاءِ مُحْتَمِلٌ لِتَرْتِيبِهِ عَلَيْهِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ أَثَّرَ الْوُقُوعُ بَائِنًا كَمَا مَرَّ.
وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَظَائِرِهَا يَصِحُّ الْإِبْرَاء إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ وَلَوْ كَانَتْ إنَّمَا أَبْرَأَتْ طَمَعًا فِي حُصُولِهِ كَمَا بَيَّنْته فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته أَوَّلَ الْجَوَابِ إفْتَاءُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فِيمَنْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ طَلِّقْنِي فَقَالَ لَهَا أَبْرِئِينِي وَأَنَا أُطَلِّقُك فَأَبْرَأَتْهُ جَاهِلَةً بِقَدْرِ الْمُبَرَّإِ مِنْهُ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ظَانًّا صِحَّة الْبَرَاءِ بِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْفَعُهُ ظَنُّهُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ الْمَذْكُورُ نَافِعًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اهـ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ أَبْرِئِينِي مِنْ مَهْرِك وَأَنْتِ طَالِقٌ.
فَاَلَّذِي حَرَّرَتْهُ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ فِي نَظِيرَتِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَتَمَامُ طَلَاقِك بَرَاءَتِي أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى الْبَرَاءَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْأَصْبَحِيّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ سَوَاءٌ أَنَوَى ذَلِكَ أَمْ أَطْلَقَ خِلَافًا لِإِطْلَاقِ الْأَصْبَحِيّ مَرَّةً كَصَاحِبِ الْبَيَانِ أَنَّهُ يَقَعُ حَالًا وَلِقَوْلِهِ آخِرًا إنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الشَّرْطَ وَقَعَ حَالًا وَإِنْ نَوَى بِهِ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالْبَرَاءَةِ وَصَادَفَتْهُ الزَّوْجَةُ تَعَلَّقَ بِهَا وَلَمْ يَقَعْ إلَّا بِوُجُودِهَا عَلَى الْأَصَحِّ. اهـ.
وَوَجَّهَ مَا ذَكَرْته أَنَّ هَذَا اللَّفْظ لَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ غَيْرُ التَّعْلِيقِ فَلَمْ يَحْتَجْ لِنِيَّةِ التَّعْلِيقِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْبَرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَوْ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى تَنْجِيزَ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَقَعُ حَالًا وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي صُورَةِ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَالْأَصْبَحِيّ فَلِيَجْرِ نَظِيرُهُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ إذْ لَا فَارِقَ بَيْنهمَا فِي أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْبَرَاءَةِ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِهَا صَحِيحَةً مَا لَمْ يَنْوِ التَّنْجِيزَ وَعَدَمَ تَعَلُّقِهِ بِهَا وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ طَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى لَك عَلَى تَمَامِ بَرَاءَتِي وَقَصَدَتْ بِالتَّمَامِ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا فَأَوْقَعَ وَاحِدَةً فَقَطْ فَجَوَابُهَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّ الطَّرْحَ بِمَعْنَى الْإِبْرَاء وَاسْتِعْمَالِ تَمَامِ بَرَاءَتِهَا فِي بَيْنُونَتِهَا الْكُبْرَى مِنْهُ صَحِيحٌ وَحِينَئِذٍ فَهِيَ مُعَلَّقَةٌ لِلْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا أَوْ مِمَّا نَوَتْهُ وَحْدَهَا أَوْ مَعَهُ مِنْ الْمَهْرِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً لَمْ يَأْتِ بِمَا شَرَطَتْهُ وَهُوَ الثَّلَاثُ فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالثَّلَاثِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْمَهْرِ أَيْضًا لِأَنَّ الْإِبْرَاء لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَالْوَاحِدَةُ الَّتِي أَوْقَعَهَا تَكُونُ رَجْعِيَّةً مَا لَمْ يَنْوِ جَعْلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ مَهْرِهَا فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرْته اتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْن هَذِهِ وَصُورَةِ الْإِرْشَادِ الَّتِي فِي السُّؤَالِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الَّذِي فِي صُورَةِ الْإِرْشَادِ أَنَّ الْأَلْفَ عِوَضٌ لِلثَّلَاثِ وَقَضِيَّةُ الْعِوَضِيَّةِ تَوْزِيعُ كُلٍّ عَلَى الْآخَرِ فَيَخُصُّ كُلَّ طَلْقَةٍ ثُلُثٌ فَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً وَقَعَ بِمَا يَخُصُّهَا بِحَسْبِ التَّوْزِيعِ وَهُوَ الثُّلُثُ وَاَلَّذِي فِي صُورَتِنَا تَعْلِيقُ الْإِبْرَاء مِنْ الْمَهْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا نَوَيَاهُ عَلَى الثَّلَاثِ فَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً لَمْ يَأْتِ بِالْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوُقُوعَ فِي التَّعْلِيقِ يَتَأَثَّرُ بِمَا لَا يَتَأَثَّرُ بِهِ الْوُقُوعُ فِي الْمُعَارَضَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِنَحْوِ سَفِيهَةٍ إلَّا أَبْرَأْتِنِي مِنْ مَهْرِك أَوْ دَيْنِك فَأَنْتِ طَالِق فَقَالَتْ أَبْرَأَتْك لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ أَصْلًا لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْإِبْرَاءُ الْمُنْصَرِفُ شَرْعًا وَعُرْفًا إلَى الْإِبْرَاءِ الصَّحِيحِ دُون الْفَاسِدِ لَمْ تُوجَدْ وَلَوْ قَالَ لِنَحْوِ السَّفِيهَةِ خَالَعْتك عَلَى أَلْفٍ فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَفَرَّقُوا بِأَنَّهُ لَا تَعْلِيق هُنَا وَإِنَّمَا الصِّيغَةُ تَقْتَضِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute