خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَ مَنْ فِيهَا دُونَ الصَّحْرَاءِ وَمِنْ عِلَّتَيْ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ وَالنَّوَوِيِّ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَلَّلَ عَدَمَ الْحِلِّ بِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الصَّيْدِ لِلْهَلَاكِ.
وَالثَّانِي عَلَّلَ الْحِلَّ بِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى الِاصْطِيَادِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ يَقُولُ بِالْحِلِّ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْبُنْدُقَ لَا يُهْلِكُهُ، وَالثَّانِي يَقُولُ بِالْحُرْمَةِ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْبُنْدُقَ يَقْتُلُهُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ فَلَا تَخَالُفَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ هَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ هُوَ مَلْحَظُ مَا فِي فَتَاوَى الْبُلْقِينِيُّ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَمْيِ الطَّيْرِ بِالْبُنْدُقِ مَا حُكْمُهُ؟
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ أَمَّا الرَّمْيُ بِالْبُنْدُقِ فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْبُنْيَانِ، وَأَمَّا رَمْيُ الطُّيُورِ بِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا أُمِرَ بِقَتْلِهِ فَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَالنَّهْيُ بَاقٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا يُرْجَى أَنْ يَسْقُطَ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَيُذْبَحُ بِحَيْثُ يَحِلُّ فَهَذَا جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُرْجَى ذَلِكَ فَالنَّهْيُ بَاقٍ إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ ضَرَرٌ اقْتَضَى تَنْفِيرَ ذَلِكَ الطَّيْرِ فَيَجُوزُ. اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَبِهِ يَتَأَيَّدُ مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَخْذًا مِنْ عِلَّتِهِ عَلَى مَا إذَا عُلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْبُنْدُقَةَ لَا تُهْلِكُهُ وَإِنَّمَا تُزِيلُ مَنَعَتَهُ حَتَّى يَصِيرَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَالرَّمْيُ بِهِ حِينَئِذٍ حَلَالٌ وَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْ الْفَوَاسِقِ أَوْ صَالَ عَلَيْهِ مَثَلًا وَلَمْ يَنْدَفِعْ عَنْهُ إلَّا بِذَلِكَ فَيَرْمِيهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ هَذَا كُلُّهُ فِي الِاصْطِيَادِ بِهَا وَأَمَّا حِلُّ مَا صِيدَ بِهَا فَإِنْ أَدْرَكَهُ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَذَبَحَهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا وَمَا وَصَلَ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ مُطْلَقًا وَمَا لَمْ يَصِلْ لِذَلِكَ حَلَّ إنْ تَيَقَّنَ حَالَ الذَّبْحِ أَنَّ بِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَكَذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ بِالْحَرَكَةِ الشَّدِيدَةِ وَانْفِجَارُ الدَّمِ وَمَتَى شَكَّ فِي اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ حَرُمَ وَإِنْ وَجَدَ انْفِجَارَ الدَّمِ وَغَيْرَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
[بَابُ الْأُضْحِيَّةِ]
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّا إذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ إتْلَافُ شَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ الْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ لَهُ وَلِمَنْ أَذِنَ لَهُ إنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَلَوْ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ يَصْرِفُهُ مَصْرِفَهَا وَأَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ وَيَكْفِيهِ نِيَّتُهُ لِلْبَدَلِ وَيَكُونُ بِقِيمَتِهِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ يَشْتَرِي بِهِ مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَيْهِ إنْ كَانَ " نَبَّا " وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ إتْلَافَهُ كَأَنْ تَطَيَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَدَكِهَا أَوْ عَثَرَ بِإِنَائِهِ فَانْقَلَبَ وَكَذَا قَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْعَامُ هِرَّةٍ أَوْ غَيْرِ آدَمِيٍّ مِنْهُ.
وَفِي كُلِّ مَا ذُكِرَ حَرَجٌ وَخِلَافٌ لِلْعَادَةِ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ فِيهِ سَعَةٌ فَلْيَتَفَضَّلْ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ بِذِكْرِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا فَلَوْ مَاتَ فَوَرَثَتُهُ مَوْضِعُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَهُمْ الْأَكْلُ وَالِانْتِفَاعُ وَالْإِهْدَاءُ كَهُوَ قَالَ السُّبْكِيّ وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا بِالذَّبْحِ وَلَا تُورَثُ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِوَارِثِهِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ مِثْلَهُ وَلَا تَقُلْ فِيهَا بِخُصُوصِهَا. اهـ. وَلَا يَشْكُلُ ذَلِكَ بِمَا فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ إذَا ضَحَّيْت الْأُضْحِيَّةَ عَنْ الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ حِينَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْأَكْلِ مِمَّا ضُحِّيَ عَنْهُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَقُومَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ.
وَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ كَهُوَ كَمَا قَالُوهُ فِيمَا ضَحَّى بِهِ فِي حَيَاتِهِ فَلَوْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَوْ بَعْضُهُمْ صِغَارًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ إطْعَامُهُمْ مِنْهَا بِالْقِسْطِ لِئَلَّا يَضِيعَ وَاسْمُ الْقِسْمَةِ عَلَيْهَا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمْ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِهِ مَمْنُوعٌ فِيمَا يَظْهَرُ وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ الْمِلْكِ فِي أُضْحِيَّةِ التَّطَوُّعِ لِلتَّعَلُّقِ اللَّازِمِ بِهِ الْمَانِعِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ أَبَدًا كَالْمَرْهُونِ بِلَا وَلِيٍّ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ فِيهِ نَظَرٌ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْصُوصًا مَعَ كَثْرَةِ التَّفْتِيشِ عَنْهُ وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ كَمَا يَرْمِي إلَيْهِ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي غُضُونِ الْمَسَائِلِ لِتَعَيُّنِهَا لِذَلِكَ وَكَوْنُهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي شُرِعَتْ التَّضْحِيَةُ لَأَجْلِهِ.
وَإِنَّمَا جَوَّزَ الْأَكْلَ تَرْخِيصًا كَمَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ فِي مَنْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا مِنْ ادِّخَارِهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهَا فِي عَصْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ نُسِخَ لِزَوَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ إنَّ الصَّدَقَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِيهَا فَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهَا فَالظَّاهِرُ جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْهَا حَالًا إنْ كَانَ فَقِيرًا كَغَيْرِهِ وَلَا نَقُولُ هُنَا يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ يَتَّحِدُ فِيهِ قَبْضُهُ وَإِقْبَاضُهُ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute