وَغَيْرِهِ «أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» فَأَفْهَمَ أَنَّهَا لَوْ حَبَسَتْهَا وَأَطْعَمَتْهَا جَازَ وَلَمْ يَدْخُلْ النَّارَ بِسَبَبِهَا وَخَبَرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا دَخَلَ دَارَ خَادِمِهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - لِزِيَارَةِ أُمِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا - يَقُولُ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» يُمَازِحُهُ عَنْ طَيْرٍ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ وَيَحْبِسُهُ عِنْدَهُ وَفِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْهِرِّ كَبِيرَةٌ لِلتَّوَعُّدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ نَعَمْ اخْتَلَفُوا فِي إسْلَامِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَاَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ كَافِرَةً وَالْخَشَاشُ مُثَلَّثٌ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يُسْتَتَرُ مِنْ صِغَارِ الْحَيَوَانِ بِالشُّقُوقِ كَالْفَأْرِ.
[بَابُ الزِّنَا]
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا» وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ ثَلَاثِينَ زَنْوَةً فِي الْإِسْلَامِ» مَعَ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَالزِّنَا كَبِيرَةٌ وَهَلْ الزِّنَا مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَحْتَاجُ فِي التَّوْبَةِ مِنْهُ إلَى اسْتِحْلَالٍ مِنْ أَحَدٍ، أَوْ هُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّينَ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْلَالٍ مِنْ قَرَابَةِ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَمِنْ زَوْجِهَا إنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً وَمَا ضَابِطُ الذَّنْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالذَّنْبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْآدَمِيِّ أَفْتُونَا بِجَوَابٍ وَاضِحٍ مَبْسُوطًا أَثَابَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
(فَأَجَابَ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمَا - «إيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِلَفْظِ «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا» وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى تُبَيِّنُ مَعْنَاهُ وَهِيَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْضًا «إيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ فَإِنَّ الْغِيبَةَ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا إنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَزْنِي فَيَتُوبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ» فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَشَدِّيَّةَ الْغِيبَةِ عَلَى الزِّنَا لَيْسَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ الْبَاطِنَةَ الْمُسْتَوْفِيَةَ لِجَمِيعِ شُرُوطِهَا مِنْ النَّدَمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْصِيَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَعَزْمٌ أَنْ لَا يَعُودَ مَعَ عَدَمِ الْغَرْغَرَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مُكَفِّرَةٌ لِإِثْمِ الزِّنَا بِمُجَرَّدِهَا بِخِلَافِ الْغِيبَةِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ وُجِدَتْ فِيهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ لَا تُكَفِّرُهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا اسْتِحْلَالُ صَاحِبِهَا مَعَ عَفْوِهِ فَكَانَتْ الْغِيبَةُ أَشَدَّ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مُطْلَقًا كَمَا شَهِدَ بِهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَلَيْسَتْ صَغِيرَةً مُطْلَقًا بَلْ إنْ كَانَتْ فِي نَحْوِ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَإِلَّا فَهِيَ صَغِيرَةٌ عَلَى نِزَاعٍ طَوِيلٍ فِيهَا.
وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا وَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الزِّنَا لَا يَحْتَاجُ فِي التَّوْبَةِ مِنْهُ إلَى اسْتِحْلَالٍ وَهُوَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَغَيْرِهِمَا وَصَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَسَتَأْتِي عِبَارَتُهُ وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ التَّوْبَةُ الْبَاطِنَةُ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمَاحِيَةُ لِلْإِثْمِ تَنْقَسِمُ إلَى تَوْبَةٍ عَنْ ذَنْبٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ وَإِلَى تَوْبَةٍ عَنْ ذَنْبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ كَمُبَاشَرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَتَقْبِيلُهَا مِنْ الصَّغَائِرِ وَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَتَحْصُلُ التَّوْبَةُ فِيهِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْهُ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ فِي الْحَالِ اهـ.
ثُمَّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الِاسْتِحْلَالِ فِي الزِّنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ مُطْلَقًا وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ السَّابِقِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ أَيْ مِنْ الْمَالِ وَنَحْوِهِ وَإِلَّا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ قَالُوا وَلِذَا اُخْتُصَّ بِالرَّجْمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَعَاصِي وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَاتِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ فِيهِ حَقًّا لِأَقَارِبِ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَلِزَوْجِهَا، أَوْ سَيِّدِهَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّمَا لَمْ يُفَوَّضْ اسْتِيفَاءُ حَدِّ الزِّنَا لِأَوْلِيَاءِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِأَنَّهُمْ قَدْ لَا يَسْتَوْفُونَهُ خَوْفًا مِنْ الْعَارِ فَعُلِمَ أَنَّ فِيهِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَكِنَّهُ لَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute