النَّقْضِ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ، لَمْ يَفْصِلُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُطَابَقَةِ وَالِاسْتِلْزَامِ وَالْجَوَازِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَطَرَّقَ الِاسْتِلْزَامِيُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ التَّضَمُّنِيَّ بِعَدَمِ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِلْزَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَّا وَالْقَرَافِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، هَذَا فِي الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِقْرَارِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَذَلِكَ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ إلَّا الْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ أَوْ وَقْفٍ إذَا قَالَ: حَكَمْت بِهِ مَعْنَاهُ: حَكَمْت بِمُوجَبِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حُكْمٌ بِثُبُوتِهِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى هُنَا لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ دُونَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ لِأَنَّهَا أَخَصُّ، وَمَرَّ أَنَّ التَّخَالُفَ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ لَا هُنَا، فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقِرِّ، ثُمَّ بَيَّنَ السُّبْكِيّ بُطْلَانَ مَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيقِ بِكَلَامِ الرَّافِعِيِّ: بِأَنَّ ضَمِيرَ مُوجَبِهِ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِهِ يَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَمُوجَبُهُ صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْ تَصَرُّفٍ، وَقَوْلُهُ وَإِلْزَامُ الْعَمَلِ بِهِ هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزُورٍ، فَمُفَادُ كَلَامِهِ يُثْبِتُ الْحُجَّةَ وَقَبُولَهَا لَا الْحُكْمَ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ، فَلِذَا صَوَّبَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ يُحْكَمُ فِي مَسْأَلَتِهِ، وَمَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا لِلتَّصْرِيحِ فِيهَا بِالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ.، وَلَيْسَ فِي عِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ لَفْظَةُ الْحُكْمِ بَلْ الْإِلْزَامِ، وَهُوَ وَإِنْ عَدُّوهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ، لَكِنَّ مَحَلَّهُ فِي الْإِلْزَامِ بِالْمُدَّعَى بِهِ.
أَمَّا إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْمُوجَبِ فَلَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ إلَّا هُنَا، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي مُرَادَفَتِهِ لِلْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَالْإِلْزَامِ بِالْمُوجَبِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا صَرَّحَ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَا حَكَمَ فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الْحَاكِمَ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ كَانَ قَدْحًا فِيهِ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي قَاضٍ مُتَبَصِّرٍ بِالْحَقَائِقِ عَالِمٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ، وَقَدْ اطَّرَدَ عُرْفُ بِلَادِنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ حُكْمٌ صَحِيحٌ كَافٍ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَ هَذَا الْحُكْمَ حَاكِمٌ جَيِّدٌ كَالْحَاكِمِ الْأَوَّلِ، وَالتَّنْفِيذُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحُكْمِ لَا الثُّبُوتِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الثُّبُوتِ فِيهِ قَدْحٌ لِلْمُنَفِّذِ أَيْضًا، إذْ لَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَعَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فَسَمَاعُهُ لِلْبَيِّنَةِ.
وَحُكْمُهُ بِهَا تَصْحِيحٌ لِلْحُكْمِ وَقَطْعٌ لِلنِّزَاعِ فِيهِ، عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا حَمْلَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَلَى مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ وَصِحَّةِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، فَتَنْفِيذُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمًا؛ لِأَنَّ التَّنْفِيذَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ وَالثُّبُوتِ، الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ فَإِذَا نَفَّذَهُ حَاكِمٌ آخَرُ كَانَ تَنْفِيذُهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَيَصِيرُ تَنْفِيذُ الثَّانِي لَازِمًا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ أَمَّا الْحَاكِمُ الثَّانِي إذَا قَالَ: إنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا صَدَرَ مِنْ الْأَوَّلِ وَأَلْزَمَ بِمُقْتَضَاهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِلُزُومِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ حُكْمٌ لَا يُتَّجَهُ فِيهِ خِلَافُ ثَمَّ قَالَ: الْمُوجِبُ: الْأَثَرُ الَّذِي يُوجِبُهُ ذَلِكَ الْأَثَرُ فَهُمَا شَرْعِيَّانِ.
وَقِيلَ: الثَّانِي عَقْلِيٌّ لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، فَمُوجَبُ الْإِقْرَارِ: ثُبُوتُ الْمُقَرِّ بِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِيُؤَاخَذَ بِهِ، وَصِحَّتُهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ شُرُوطِهِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْمُوجَبِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ، فَالْحُكْمُ بِالسَّبَبِيَّةِ فَقَطْ وَتَوَقُّفُهَا عَلَى وُجُودِ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إعْمَالِ السَّبَبِ وَإِثْبَاتُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُوجَبَ الْإِنْشَاءِ أَثَرُهُ الْمُسَبَّبُ عَنْهُ، وَصِحَّتَهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَهَا شُرُوطٌ فِي التَّصَرُّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ اهـ. مُلَخَّصًا وَفِيهِ فَوَائِدُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وَقَعَ لِلسُّبْكِيِّ مِمَّا مَرَّ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ سَبَبُهُ أَنَّ نُسْخَتَهُ أَلْزَمْت الْعَمَلَ بِهِ، وَهِيَ نُسَخٌ أُخْرَى غَيْرُ مُعْتَمَدَةٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ عِبَارَتِهِ، وَحَاصِلُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ عَلَى ظَهْرِ الْكِتَابِ الْحُكْمِيِّ صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ وَالْتَزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَصْحِيحَ الْكِتَابِ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُجَّةِ انْتَهَتْ. وَتَبِعَهُ فِي الرَّوْضَةِ فَتَعْلِيلُهُمَا الْمَذْكُورُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عِبَارَتَهُمَا اُلْتُزِمَتْ لَا أَلْزَمْت وَحِينَئِذٍ زَالَ التَّعْلِيقُ بِكَلَامِ الرَّافِعِيِّ السَّابِقِ فِي أَوَّلِ كَلَامِ السُّبْكِيّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[بَابُ الْهِبَةِ]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute