الْمَاءِ فِي مَسْأَلَتِنَا تَارَةً وَعَدَمَهُ أُخْرَى، فَاسْتَحْضِرْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.
خَامِسُهَا: يَتَعَيَّنُ عَلَى الشَّافِعِيِّ إذَا أُرِيدَ الدَّعْوَى عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَعْضِ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ الْبَيِّنَةَ بِمِلْكِ مَنْبَعِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا، وَلَا يَكْفِي حُكْمُ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ وَقْفِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِمِلْكِ الْمَحْكُومِ لَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَإِذَا اسْتَوَى ذَلِكَ سَأَلَ الْحَنَفِيَّةَ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ يَمْنَعُ ضَمَانَ الْمَاءِ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى لِئَلَّا يَكُونَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ، وَإِنْ قَالُوا: لَا يَمْنَعُهُ تُسْمَعُ الدَّعْوَى.
وَحَكَمَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَذْهَبَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ هَذَا مِنْ آثَارِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى أَيْضًا، وَإِلَّا سَمِعَهَا، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَكَتَبَهُ أَحْمَدُ بْن حَجَرٍ الشَّافِعِيُّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ مَشَايِخِهِ وَوَالِدَيْهِ وَالْمُسْلِمِينَ حَامِدًا مُصَلِّيًا مُسَلِّمًا مُحْتَسِبًا مُحَوْقِلًا، ثُمَّ رَأَيْت الْإِمَامَ السُّبْكِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْقَوْلِ الْمُوعِبِ مَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْته: أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَا يُنْقَضُ بِشَيْءٍ مِنْ آثَارِهِ وَلَا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوْ التَّضَمُّنِ أَوْ الِاسْتِلْزَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ امْرَأَةً أَقَرَّتْ أَنَّهَا وَقَفَتْ دَارَهَا الثَّابِتَ مِلْكُهَا وَحِيَازَتُهَا لَهَا عَلَى كَذَا، وَشَرَطَتْ النَّظَرَ لِنَفْسِهَا، وَأَشْهَدَ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَبِالْحُكْمِ بِهِ، فَأَرَادَ مَالِكِيٌّ إبْطَالَهُ لِشَرْطِهَا النَّظَرَ لِنَفْسِهَا وَاسْتِمْرَارِ يَدِهَا، وَلِكَوْنِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَحْكُمْ بِالصِّحَّةِ وَأَنَّ حُكْمَهُ بِالْمُوجَبِ لَا يَمْنَعُ النَّقْضَ.
وَأَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَخْذًا مِنْ تَصْوِيبِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ: صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ جَازَ نَقْضُهُ وَلَكِنْ هُنَا زِيَادَةٌ تَمْنَعُ النَّقْضَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبِالْحُكْمِ بِهِ أَيْ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَوَافَقَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَوْ قَارَبَ ثُمَّ صَوَّبَ السُّبْكِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا، وَرَدَّ جَعْلَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ لِلْوَاقِفِ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَحْتَمِلُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ عَلَى مُوجَبِ الْإِقْرَارِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ فَقَطْ أَوْ عَلَى الثُّبُوتِ، فَالْمَحْكُومُ بِهِ مُوجَبُ الْإِقْرَارِ أَوْ ثُبُوتُ الْإِقْرَارِ.
وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى الثُّبُوتِ صَحِيحَةٌ بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَإِنْهَاءَ الْحَالِ إلَى الْقَاضِي نَقْلُ شَهَادَةٍ لَا حُكْمٌ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْحُكْمِ بِهَا وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ لَفْظَةَ الْحُكْمِ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْإِلْزَامُ بِالْمُدَّعَى بِهِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَثْبِيتِ الدَّعْوَى ثُمَّ صَوَّبَ السُّبْكِيّ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ بِحَالٍ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَاعِدَةً كُلِّيَّةً.
وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَمِنْهُ حِكَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِمْ الْإِجْمَاعَ، عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، نَعَمْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِلْحَاكِمِ نَقْضُ حُكْمِ نَفْسِهِ إذَا بَانَ خَطَؤُهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا، وَرَدَّ السُّبْكِيّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ لَا يُنْقَضُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، بَلْ لَا يُنْقَضُ كُلٌّ مِنْهُمَا وَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ الْمُطْلَقَةِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحُكْمِ وُجُودُ جَمِيعِ شُرُوطِهَا، وَكَذَا عَبَّرَ الْقُضَاةُ فِيهَا.
وَأَمَّا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِمُعَيَّنٍ فَيَكْفِي إقْرَارُهُ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ لِيُؤَاخَذَ بِهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ وَصِحَّةَ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، فَهُنَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ. حُكْمٌ بِالْمُطَابَقَةِ: وَهُوَ مُوجَبُهُ، وَحُكْمَانِ بِالِاسْتِلْزَامِ: وَهُمَا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَقَوْلُ الْهَرَوِيِّ: إنَّ مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِلْإِقْرَارِ الثَّابِتِ عِنْدَهُ لَا الْمَوْتِ وَلَا الْوَقْفِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِشَارَةَ لِلْإِقْرَارِ تَعَيَّنَ أَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِأَمْرَيْنِ بِالْإِقْرَارِ وَمُوجَبِهِ، فَلَوْ صَحَّ حُكْمُ الْمَالِكِيِّ السَّابِقِ، لَكَانَ الصَّادِرُ مِنْهُ بِالْمُطَابَقَةِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَبِالتَّضَمُّنِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَبِالِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ بِهِ، فَيَكُونُ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ لِتَوَارُدِهِمَا عَلَيْهِمَا.
وَإِنْ كَانَ مَا حَكَمَ بِهِ الثَّانِي بِالْمُطَابَقَةِ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ بِالْمُطَابَقَةِ وَامْتِنَاعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute