فِي مَسْأَلَتِنَا.
وَلِلسُّبْكِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، بَعْضُهُ يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ وَبَعْضُهُ يَشْهَدُ لِلثَّانِي، وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ: أَنَّ لِلْأَوَّلِ شُرُوطًا تَرْجِعُ لِلْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَبِالْمُوجَبِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ تِلْكَ الشُّرُوطِ حَكَمْنَا بِفَسَادِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهَا فَمَا رَجَعَ لِلصِّيغَةِ أَوْ حَالِ التَّصَرُّفِ فَوَاضِحٌ، وَمَا رَجَعَ لِلْمُتَصَرِّفِ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوُجُودِيَّةِ كَالْمِلْكِ اُشْتُرِطَ ثُبُوتُهُ لِلْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ، بِخِلَافِ الشُّرُوطِ الْعَدَمِيَّةِ كَكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ ثُبُوتُهُ، وَاشْتُرِطَ ثُبُوتُ نَحْوِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا ظَاهِرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِلْكٌ وَلَا عَدَمُهُ وَثَبَتَ مَا سِوَاهُ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التَّصَرُّفَ صَالِحٌ وَسَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَيَكُونُ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَيَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُوجَبِ ذَلِكَ.
وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ التَّصَرُّفَ سَبَبٌ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ بِشَرْطِهِ حَتَّى إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إفَادَتِهِ الْمِلْكَ كَالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ فَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ، ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَأَنَّ الْوَاقِفَ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَيْعَهُ بَعْدُ، لَمْ يُمَكَّنْ وَأَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ مَا هُوَ فِي يَدِهِ إذَا أَقَرَّ لِلْوَاقِفِ بِالْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ كَمَا يُؤَاخَذُ الْوَاقِفُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْ يُصْرَفَ الرَّيْعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِ ذِي الْيَدِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ وَقْفُ الْوَاقِفِ لِمَا فِي يَدِهِ أَوْ اعْتِرَافُ ذِي الْيَدِ لَهُ كَافٍ فِيهِ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِي الْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِالْبَيِّنَةِ.
وَثُبُوتُ أَثَرِهَا فِي حَقِّ مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ كَالْوَاقِفِ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ بِلَا شَرْطٍ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَحُكْمَ الْإِقْرَارِ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِلْكُ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ لَازِمًا لِذِي الْيَدِ وَمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ.
وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، بَلْ الْحُكْمُ مُنْجَرٌّ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ فِيهِ فَأَجَابَ: يَثْبُتُ الْمَلِكُ عَلَيْهِ إمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ، وَيَزِيدُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَبِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ الْمَلِكُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ مَوْجُودَيْنِ أَمْ مُتَجَدِّدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ لَا مُطْلَقًا وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ التَّامَّةِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهَا ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ لَا يَأْتِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِدَافِعٍ، وَاحْتِمَالُ الدَّافِعِ لَا يُنَافِي الْجَزْمَ بِالْحُكْمِ، وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ مَنْ بِيَدِهِ مِلْكٌ لَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مَثَلًا وَثَبَتَ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّ الْمُقِرَّ وَالْمُتَصَرِّفَ يُؤَاخَذُ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ وَتَصَرُّفِهِ، فَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْهُ بِالْوَقْفِ وَإِلَّا فَلَا يُقَرُّ عَلَى بَيْعِهِ، فَهُوَ مِنْهُ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِصِحَّةِ كَوْنِهِ سَبَبًا حَتَّى يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ مَثَلًا وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ يَرَاهُ وَالْحَاكِمُ لَا يَرَاهُ، فَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِرَأْيِهِ مِنْ صِحَّةِ السَّبَبِيَّةِ وَخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ قُلْت: الْمُوجَبُ مَجْهُولٌ وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْمَحْكُومِ بِهِ كُلِّهِ قُلْت: الْمُوجَبُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.
وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمُوجَبُهُ وَمَدْلُولُهُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ فَمَدْلُولُهُ: مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَمُقْتَضَاهُ: وَمُوجَبُهُ: مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ مَدْلُولُهُ إنْشَاءُ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ صَيْرُورَتُهُ ذَلِكَ وَقْفًا وَاسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ اهـ. الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ فَتَأَمَّلْهُ، فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِدَ تَنْفَعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا جَعْلُهُ مِنْ مُوجَبِ الْوَقْفِ اسْتِحْقَاقَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي تَرْجِيحِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ مِنْ مُوجَبِ الْوَقْفِ مِلْكَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِبَدَلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute