مِنْهُمَا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ تَبَعًا لَا أَصَالَةً. اهـ. وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا قَدَّمْته فَسَادَ الْقِيَاسِ عَلَى الْجِلْدَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَإِذَا صَارَتْ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ نُسِبَتْ إلَيْهِ وَعُدَّتْ مِنْهُ فَوَجَبَ غَسْلُهَا لِذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْفُ النَّقْدِ فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ بِحَالٍ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ وَلَا جَامِعُهُ الْمَذْكُورَانِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَأَمْعِنْ النَّظَرَ فِيمَا قَرَّرْته لَك فَإِنَّهُ مُهِمٌّ إذْ لَمْ يُصَرِّحُوا فِيهِ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا ذَلِكَ مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُوَفِّقُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَنْ الدَّاخِلِ إلَى بَيْتِهِ وَالْخَارِجِ مِنْهُ مَا الَّذِي يُقَدِّمُ مِنْ رِجْلَيْهِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَمْ أَرَ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ كَلَامًا لِأَصْحَابِنَا وَرَأَيْت لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ فِيهِمَا.
وَاَلَّذِي يَجْرِي عَلَى قَوَاعِدِنَا أَنَّهُ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ فِي الدُّخُولِ وَيَسَارَهُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّ مَنْزِلَ الْإِنْسَانِ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ؛ وَلِذَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لِمَنْزِلِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَهُ قَبْرًا، أَيْ كَالْقَبْرِ يَهْجُرُهُ عَنْ وُقُوعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ فَطَلَبُ الشَّارِعُ ذَلِكَ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ، وَأَيْضًا طَلَبَ الشَّارِعُ مِنْ دَاخِلِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ عِنْدَ دُخُولِهِ وَرَتَّبَ عَلَى بَعْضِهَا أَنَّهُ إذَا قَالَهُ ارْتَحَلَ الشَّيْطَانُ عَنْهُ وَصَارَ مُنَزَّهًا عَنْهُ وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ لَهُ أَيُّ تَشْرِيفٍ.
وَإِذَا ثَبَتَ شَرَفُهُ عَلَى مَا يَلِيه بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي ذَكَرْتهَا لَزِمَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ لَهُ وَيَسَارَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ قِيَاسًا لَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ وَاضِحٌ.
قُلْت: لَا نَظَرَ لِخُصُوصِ الْمَسْجِدِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْرَسَةَ وَمُصَلَّى الْعِيدِ وَنَحْوَهُمَا مِنْ مَحَالِّ الْعِبَادَةِ يَجُوزُ الْمُكْثُ فِيهِمَا لِلْجُنُبِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسْجِدِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ دُخُولًا وَيَسَارَهُ خُرُوجًا فِيهِمَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِمَا نَظَرًا إلَى أَنَّهُمَا مَحَلُّ عِبَادَةٍ طُلِبَتْ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ الْمَنْزِلُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِعِبَادَاتِ مَخْصُوصَةٍ طُلِبَتْ فِيهِ بِخُصُوصِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا شَرَفَ فِيهِ هُوَ لَا خِسَّةَ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَكُلُّ مَا لَا شَرَفَ فِيهِ وَلَا خِسَّةَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْيَمِينِ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَإِذَا بَدَأَ فِي دُخُولِهِ بِالْيَمِينِ بَدَأَ فِي الْخُرُوج مِنْهُ بِالْيَسَارِ.
[بَابُ الْغُسْلِ]
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَتَّعَ بِحَيَاتِهِ الْمُسْلِمِينَ - عَنْ رَجُلٍ يَجْمَعُ عِدَّةً مِنْ الْأَطْفَالِ بِأَلْوَاحِهِمْ وَفُرُشِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِقْرَائِهِمْ الْقُرْآنَ، وَتَارَةً يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَيُشَوِّشُونَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَكَثِيرًا يُلَوِّثُونَ الْمَسْجِدَ بِالْمِيَاهِ فَهَلْ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُمْنَعُ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ وَيُمْنَعُ الْأَطْفَالُ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ عُزِّرَ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ إقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» قَالَ تَعَالَى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: ٣٦] وَهَذَا عَامٌّ فِي إقْرَاءِ الْبَالِغِينَ وَغَيْرِهِمْ بِشَرْطِهِمْ الْآتِي.
وَأَمَّا مَا رَآهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ وَأَنْ يُقَامُوا إذَا اجْتَمَعُوا لِلْقِرَاءَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ رَأْيٌ انْفَرَدَ بِهِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلْفُ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْمِيرِهَا بِالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَيْ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ الْمُتَعَلِّمُونَ مُمَيِّزِينَ يُؤْمَنُ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ وَتَقْذِيرُهُ وَعَدَمُ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ غَيْرُ مُمَيِّزِينَ لَا يُؤْمَنُ تَنْجِيسُهُمْ أَوْ تَقْذِيرُهُمْ لَهُ حَرُمَ عَلَى الْمُعَلِّمِ إدْخَالُهُمْ وَعَلَى الْحَاكِمِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ - زَجْرُهُ وَرَدْعُهُ عَنْ إدْخَالِهِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ نَهْيُهُ أَيْضًا عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ لِإِقَامَةِ صَلَاةٍ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ أَوَّلًا مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ أَوْ تَقْذِيرِهِ بِمَنْ يَدْخُلُ إلَيْهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ تَمْكِينِهِ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ يُصَلِّي فَإِذَا أَصَرَّ الْمُعَلِّمُ عَلَى مَا مُنِعَ مِنْهُ، وَرَأَى الْحَاكِمُ أَنَّ نَهْيَهُ وَزَجْرَهُ عَمَّا ذُكِرَ لَا يُفِيدُ جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِعِصْيَانِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَلِعِنَادِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ أَكَلَ نَحْوَ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ