فَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى، بَلْ قَدْ تَرَجَّحَتْ الْمَحْكُومُ بِهَا بِالْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ لَا يُنْقَضُ بِالِاحْتِمَالِ وَلَك رَدُّ اعْتِرَاضِهِ هَذَا بِأَنَّهُ فَرْقٌ صُورِيٌّ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَقَوْلُهُ: بَلْ قَدْ تَرَجَّحَتْ إلَى آخِرِهِ مَرَّ مَا يَرُدُّهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُعَدُّ مُرَجِّحًا، ثُمَّ اعْتَرَضَهُ أَيْضًا بِنَحْوِ مَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ وَقَدْ مَرَّ رَدُّهُ عَلَى السُّبْكِيّ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَاَلَّذِي يَتَحَرَّرُ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ بِكَذِبِ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى كَأَنْ تُقَوَّمَ الْحِجَارَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَثَلًا، نُقِضَ الْحُكْمُ بِهَا لِلْقَطْعِ بِكَذِبِهَا فَصَارَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى لَا مُعَارِضَ لَهَا، وَأَمَّا مَعَ الِاحْتِمَالِ فَلَا نَقْضَ لِلْحُكْمِ وَبِدُونِ الْحُكْمِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إمَّا أَنْ تُرَجَّحَ النَّاقِضَةُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا وَيَتَسَاقَطَا انْتَهَى كَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَدَّمْتهَا مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ بِكَذِبِ الْأُولَى مُبْطِلٌ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ أَيْضًا إجْمَاعُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَمَظْنُونٍ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالسُّبْكِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهَا. وَاسْتُفِيدَ مِنْ تَمْثِيلِ أَبِي زُرْعَةَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ اسْتِحَالَةَ أَمْرٍ اسْتَنَدَتْ إلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ حُكْمٌ أَلْغَاهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ
وَاسْتَدَلَّ التَّاجُ السُّبْكِيّ لِأَبِيهِ بِمَسْأَلَةٍ فِي الرَّافِعِيِّ لَكِنَّنِي بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الرَّافِعِيِّ لَا يَدُلُّ لِمَا مَرَّ عَنْ أَبِيهِ: مِنْ إطْلَاقِ عَدَمِ النَّقْضِ، نَعَمْ قَدْ يُشْكَلُ عَلَى مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ: لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأُخْرَى بِفَسَادِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُخْرَى أَنَّهُ بَاعَ بِدُونِهِ رُجِّحَتْ الْأُولَى.
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: وَبِهِ أَفْتَى أَهْلُ زُبَيْدٍ لَكِنْ أَفْتَى الْعُمْرَانِيُّ بِأَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِكَلَامِ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ وَيُجَابُ بِأَنَّ السُّبْكِيّ الْمُخَالِفَ لِابْنِ الصَّلَاحِ لَا يَقُولُ بِتَقْدِيمِ الشَّهَادَةِ بِالْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، بَلْ يَقُولُ: بِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ مِنْ التَّعَارُضِ فَكَانَ مَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَمَا أَخَذَهُ مِنْهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَارِدًا عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَالسُّبْكِيِّ مَعًا، وَيُوَجَّهُ خُرُوجَ هَذِهِ عَنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الصِّحَّةِ، بِأَنَّ الْقِيمَةَ أَمْرُ تَخْمِينٍ. وَالشَّاهِدُ بِهَا إنَّمَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ ظَنٍّ فَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى ظَنِّهِ إلَّا حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهُ ظَنٌّ آخَرُ، فَإِذَا عَارَضَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ تَسَاقَطَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَانَ أَنَّ الْحُكْمَ بُنِيَ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ مُعَارِضٍ، فَفَاتَ شَرْطُهُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الِاعْتِمَادِ عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ وَلَوْ مِثْلَهُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.
وَبِهِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ التَّحْقِيقَ مَعَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا اعْتَرَضَ بِهِ السُّبْكِيّ يَرُدُّهُ مَا قَرَّرْتُهُ فَاحْفَظْ ذَلِكَ، وَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ نَفِيسٌ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ بَيَانِ الْمَدَارِكِ وَالْمَآخِذِ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَتَحَرَّرُ الْإِفْتَاءُ بِهِ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ بِوَجْهٍ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ كَذِبُ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدَّمْتهَا بَانَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهَا وَالْحُكْمُ الْمُسْتَنِدُ إلَيْهَا فَيُنْقَضُ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُظْهِرُ بُطْلَانَهُ وَيَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
[الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيْتٍ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٍ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ]
الْبَابُ الثَّانِي فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ وَهُوَ بَيْتٌ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٌ لَا يَحْتَاجُ لِعِمَارَةٍ وَلَا يُخْشَى انْهِدَامُهُ لِمُكْنَةِ بِنَائِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَعَ ذَلِكَ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ مِائَةَ سَنَةٍ. وَحَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِمَوْتِ الْمُتَآجِرَيْنِ وَذَكَرَ فِي مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَنَّ الْحَظَّ وَالْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ لِجِهَةِ الْوَقْفِ وَلِلْمَوْقُوفِ فِي إيجَارِهِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِيهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ مَثَلًا فَهَلْ إجَارَةُ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ صَحِيحَةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحَظُّ وَالْمَصْلَحَةُ وَالْغِبْطَةُ تَتَقَيَّدُ بِقَوْلِهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَى آخِرِهِ أَوْ لَا؟ وَإِذَا تَقَيَّدَتْ فَهَلْ يَكْفِي فِي الْمَصْلَحَةِ كَوْنُ الْأُجْرَةِ زَائِدَةً عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ أَخْذًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ فِي بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ، وَهَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ: أَنْ يُؤَجِّرَ مَا رَآهُ وَأَنْ لَا يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute