مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ لَا؟
وَهَلْ إذَا تَعَرَّضَ الْحَاكِمُ الشَّافِعِيُّ لِعَدَمِ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْمُتَآجِرَيْنِ يَكُونُ لِلْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِانْفِسَاخِهَا بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْعَادَةُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ أَوْ لَا؟ وَمَا مَعْنَى الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَكْتُوبِ بِمُقْتَضَى إلَى آخِرِهِ وَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ، وَابْسُطُوا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ لِذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُفْتِينَ بِمَكَّةَ فِيهِ وَتَبَايُنِ آرَائِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ.
الْجَوَابُ: أَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ كَالْأَصْحَابِ أَنَّ مِنْ وَظِيفَةِ نَاظِرِ الْوَقْفِ حِفْظَ الْأُصُولِ وَالْغَلَّاتِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَمِنْ وَظِيفَتِهِ أَيْضًا إجَارَتُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ كَغَيْرِهِمَا. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ: وَلَا يَتَصَرَّفُ النَّاظِرُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَصَرَّحَ التَّاجُ السُّبْكِيّ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَصَرِّفٍ عَنْ الْغَيْرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ وَاسْتَوَيَا لَمْ يَتَصَرَّفْ، وَيَشْهَدُ لَهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَلَامُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَغَيْرِهِ فِي وُجُوبِ أَخْذِ الْوَلِيِّ بِالشُّفْعَةِ لِمَحْجُورِهِ، إنْ كَانَ فِي الْأَخْذِ مَصْلَحَةٌ، وَتَرْكِهِ إذَا عُدِمَتْ فِي الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ مَعًا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: ١٥٢] وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ لَمْ تُوجَدْ الْأَحْسَنِيَّةُ فَامْتَنَعَ الْقُرْبَانُ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّتُنَا، فَكَانَ مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ فِعْلُ الْأَصْلَحِ، وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ فِي بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ وَفِي إيجَارِهِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْأَصْلَحِ مِنْ إيجَارِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ وَالْقَصِيرَةَ إذَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَصْلَحَةٌ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مَصْلَحَةٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَفْسَدَةٌ، وَاسْتَوَيَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ عُلِمَ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ أَصْلَحَ مِنْ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِلَا إجَارَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مَفْسَدَةٌ، وَفِي بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِدُونِ تِلْكَ الْإِجَارَةِ مَصْلَحَةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَاسْتَوَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِيجَارُ، إذْ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَتَا تَعَارَضَتَا فَتَسَاقَطَتَا.
وَبَعْدَ أَنْ اتَّضَحَ لَك أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ تَحَقُّقِ كَوْنِهَا أَصْلَحَ مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ بِلَا إيجَارٍ، فَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَ الْقَاضِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ
حَيْثُ جَعَلُوا نَاظِرَ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ وَصَرَّحُوا فِي الْوَصِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُسَجِّلَ بَيْعَهُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ لِلْمَحْجُورِ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِمَا، ثُمَّ لَا بُدَّ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ بَيَانِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهُمَا: نَشْهَدُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَغِبْطَةً كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي الدَّمِ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي نَظِيرِ مَسْأَلَتِنَا الْآتِيَةِ.
قَالَ: فَلَا نَسْمَعُ شَهَادَتَهُ الْمُطْلَقَةَ وَإِنْ وَافَقَ الْحَاكِمَ فِي مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى أَسْبَابِهَا، بَلْ وَظِيفَتُهُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مَا شَاهَدَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ، ثُمَّ الْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَآهُ سَبَبًا رَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ كَغَيْرِهِ لَوْ عَلِمَ الشَّاهِدُ اسْتِحْقَاقَ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو دِرْهَمًا مَثَلًا، بِأَنْ عَرَفَ سَبَبَهُ كَأَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ دِرْهَمًا وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عَلَى شَاهِدٍ فَقِيهٍ مُوَافِقٍ لِلْحَاكِمِ فِي مَذْهَبِهِ بِحَيْثُ يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِتَفَاصِيلِ الْأَسْبَابِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلْحَاكِمِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِهِ فِي مِثَالِهِمْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ حَتَّى لِلْعَوَامِّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمُسَوِّغَةَ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ حَتَّى أَخْطَأَ فِيهَا بَعْضُ الْمُفْتِينَ كَمَا يَأْتِي، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِقَاضٍ شَهِدَ عَامِّيٌّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إجَارَةِ كَذَا مِائَةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ قَبُولُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؟ ، هَذَا مِمَّا لَا يَسَعُ شَافِعِيًّا أَنْ يَقُولَ بِعُمُومِهِ.
وَأَمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute