للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، فَعِبَارَةُ الْمَكْتُوبِ الْمَذْكُورِ صَرِيحَةٌ فِي تَقْيِيدِ الْحَظِّ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ بِكَوْنِ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً، هَذَا مِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ عَلَى جَمِيعِ احْتِمَالَاتِهِ وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إلَّا بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَارِهِ مِائَةَ سَنَةٍ بِكَذَا، بِمُقْتَضَى أَنَّ هَذِهِ الْأُجْرَةَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ فَحَصَرَ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي شَهِدَا بِهَا فِي هَذَا الْفَرْدِ الْخَاصِّ وَصَارَا كَالْمُصَرِّحَيْنِ بِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْإِيجَارِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْ عِبَارَةِ مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ الْمَذْكُورِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاتَّضَحَ مِنْهُ مَا قَرَّرْنَاهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِإِجَارَةِ مِائَةِ سَنَةٍ مَثَلًا عَجِيبٌ غَرِيبٌ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ أَعْجَبُ وَأَغْرَبُ

وَمِمَّا يُبْطِلُ قِيَاسَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا فِي بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ لِغِبْطَةٍ بِمُجَرَّدِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا شَرَطُوا ثَمَّ فِي الْغِبْطَةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، بَلْ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَبِهِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مَعَ كَوْنِهِ يَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَقَارَ بِبَعْضِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، قَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ أَوْ الْأَكْثَرُونَ: أَوْ يَجِدُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الْعَقَارِ بِكُلِّ ذَلِكَ الثَّمَنِ فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الْغِبْطَةُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ عَقَارِهِ مَعَ بَقَاءِ فَضْلَةٍ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْرَمَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا آخَرَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْعَقَارِ الْأَدْوَنِ.

وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ فَجَازَ بَيْعُ الْعَقَارِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَوْا فِي بَيْعِ غَيْرِ نَحْوِ الْعَقَارِ بِمُجَرَّدِ رِبْحٍ قَلِيلٍ بَلْ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ: بِلَا رِبْحٍ بِخِلَافِ الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالضَّيَاعِ مَعَ أَنَّ لَهُ غَلَّةً وَفَوَائِدَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَاحْتِمَالُ خَرَابِهِ لَيْسَ كَاحْتِمَالِ ضَيَاعِ غَيْرِهِ لِقُرْبِ هَذَا وَبُعْدِ ذَاكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ مِمَّا ذُكِرَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي إجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ

وَلَيْتَهُ إذَا أَخَذَ ذَلِكَ قَيَّدَهُ بِزِيَادَةٍ لَهَا وَقْعٌ، وَإِلَّا فَالِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ الزِّيَادَةِ لَا يَكْفِي فِي الْبَيْعِ عَلَى الْيَتِيمِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ إلَّا بِغِبْطَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَسْتَهِينُ بِهِ أَرْبَابُ الْعُقُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَرَفِ الْعَقَارِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ عَقَارٍ لِلطِّفْلِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرَ قِيمَةً وَرَيْعًا مِمَّا يَبِيعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا خَيْرَ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ اهـ. فَتَأَمَّلْ ضَبْطَهُ لِلْغِبْطَةِ بِمَا ذُكِرَ لِتَعْلَمَ مَا فِي كَلَامِ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ التَّسَاهُلِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا فِي بَيْعِ عَقَارِ الْمَحْجُورِ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ، لَمْ يُقَسْ بِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا

فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَحْجُورِينَ التِّجَارَةَ لَهُمْ، وَمَوْضُوعُهَا إدْخَالُ الْأَعْيَانِ وَإِخْرَاجُهَا لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوِلَايَةِ هُنَا حِفْظُ الْأُصُولِ وَتَحْصِيلُ غَلَّتِهَا عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا. وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقْصُودَيْنِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ثَمَّ لَا يُنَافَى التِّجَارَةَ الْمَقْصُودَةَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ هُنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُنَافَى الْمَقْصُودَ هُنَا مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ سَلِيمَةً عَمَّا يُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِهَا وَانْقِطَاعِ حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنِهَا، فَاتَّضَحَ فُرْقَانُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا عُذْرَ لِذَلِكَ الْمُفْتِي فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَا اعْتِبَارَ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ.

وَمِمَّا يُبْطِلُ مَا قَالَهُ أَيْضًا مَا فِي فَتَاوَى الْإِمَامِ الْكَمَالِ الرَّدَّادِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتَعَدٍّ عَلَى وَقْفٍ لَهُ نَاظِرٌ فَطَلَبَ نَاظِرُهُ مِنْ الْحَاكِمِ رَفْعَ يَدِ الْمُتَعَدَّيْ هَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ؟

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَجِبُ. عَلَى الْحَاكِمِ رَفْعُ يَدِ الْمُتَعَدَّيْ عَنْهَا وَيُؤَجِّرُهَا النَّاظِرُ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ لَهُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ. اهـ.

فَاشْتَرَطَ مَعَ الْمَصْلَحَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ فَأَفْهَمْ أَنَّ الْإِيجَارَ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي، فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ أَنَّهُ يَكْفِي، وَقَالَ الْكَمَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا: وَأَمَّا تَأْجِيرُ النَّاظِرِ ثَلَاثِينَ سَنَةً. فَالْمَنْقُولُ الصِّحَّةُ مَعَ مُرَاعَاةِ الْغِبْطَةِ وَكَوْنِهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ، فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّصْرِيحِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْإِمَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْغِبْطَةِ وَكَوْنِهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ.

وَقَالَ أَيْضًا: عَلَى النَّاظِرِ الْعَمَلُ فِي الْوَقْفِ بِمَا يَتَوَجَّهُ شَرْعًا مِنْ الْبَدَاءَةِ بِعِمَارَتِهِ وَتَأْجِيرِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>