للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ عَلَى ثِقَةِ مَلِيءٍ أَمِينٍ. اهـ وَبِذَلِكَ كُلِّهِ عُلِمَ أَنَّ زَعْمَ الِاكْتِفَاءِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَحْدَهَا بَاطِلٌ صَرِيحٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجَارَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ إلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فِيهِ هُوَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُفِيدُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ فَإِذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى مَا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ وَلَا الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَحْدَهُ، فَبَانَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَادِفٍ لِمَا يُصَحِّحُهُ فَكَانَ لَغْوًا مِنْ أَصْلِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ فَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِإِجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ، وَقَدْ انْحَصَرَتْ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ لَا إلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا يَأْتِي عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَرَّرْته مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا تُجَوِّزُ إجَارَةَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ

وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ حَيْثُ قَالَ: لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا يَأْتِي عَنْهُ فَخَصَّ الْجَوَازَ بِالْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا وَعَلَى مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْإِجَارَةَ لِمُجَرَّدِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ لَا تَجُوزُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ إطْلَاقُ الْأَذْرَعِيِّ امْتِنَاعَ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِ الْوَقْفِ وَمَفَاسِدَ أُخْرَى تُعْلَمُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ فَمَحَلُّ امْتِنَاعِهَا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ عَائِدَةً لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَقَطْ، وَأَمَّا إطْلَاقُهُ امْتِنَاعَهَا وَإِنْ عَادَتْ إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ فَلَا يُتَّجَهُ كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ وَسَيَأْتِي فَتَعَيَّنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ تِلْمِيذِهِ الزَّرْكَشِيّ: جَوَازُ إجَارَةِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ وَنَحْوِهَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ وَيَدُلُّ عَلَى حَمْلِ كَلَامِهِ أَعَنَى الزَّرْكَشِيّ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سُرَاقَةَ وَأَبِي الْفَرَجِ الْجَزْمُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الْخَرَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ لِيُحْتَكَرَ اهـ.

فَافْهَمْ أَنَّ اسْتِبْعَادَهُ الْأَوَّلَ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْخَرَابِ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِ الْخَرَابِ إنَّمَا تَعُودُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَلَمْ تَكُنْ مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَفَاسِدَ فَلَا تُفْعَلُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْجِعُ إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ حِفْظِهِ بِالْعِمَارَةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ تَوَهُّمِ تَمَلُّكِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ اشْتِمَالَهَا عَلَى مَفَاسِدَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: إنَّ الْحُكَّامَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ لِئَلَّا يَنْدَرِسَ مَالُوا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَقَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ وَصَاحِبِ الْأَنْوَارِ: مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ.

وَقَوْلُ السُّبْكِيّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الِاصْطِلَاحِ لَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ إجَارَةَ الْوَقْفِ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ بِالْقِيمَةِ، وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ صَعْبٌ قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا تَوَقُّعُ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَقَدْ تَتْلَفُ الْأُجْرَةُ فَتَضِيعُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.

قَالَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا إجَارَةَ بَعْضِ الْحُكَّامِ الْوَقْفَ مُدَّةً طَوِيلَةً أَدَّتْ إلَى تَمَلُّكِهِ وَإِبْطَالِ وَقْفِيَّتِهِ وَانْدِرَاسِهِ، وَالِاحْتِيَاطُ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِلَا شَكٍّ. اهـ. وَقَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ أَنْ تُؤَجِّرَ وَقْفًا خَمْسِينَ سَنَةً بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِرَارًا مِنْ الْبَطْنِ الَّذِي بَعْدَهَا لَا يَجُوز لَهَا ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْإِذْنُ لَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ الْمُدَّةَ الْبَعِيدَةَ صَعْبٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ إذَا أُجِّرَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ انْدِرَاسُهُ كَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ وَشَاهَدْنَاهُ، عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ وَتِلْمِيذَهُ الْبَغَوِيَّ وَالْمُتَوَلِّي ذَكَرُوا أَنَّ الْحُكَّامَ اصْطَلَحُوا عَلَى مَنْعِ إجَارَةِ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ هَذَا فِي زَمَانِهِمْ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا

الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ قَاضٍ أَمِينٌ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ؟ بَلْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: قُضَاةُ الْعَصْرِ كَقَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا فِي زَمَانِهِ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا؟ اهـ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقَدْ كَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ مِنْ نُظَّارِ الْوَقْفِ فِي تَأْجِيرِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ مُنْدَرِسَ الْوَقْفِ وَيُتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>