للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَسَائِرِ أَحْوَالِهَا أَوْ لَا؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُغَلَّظَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَسْأَلَةِ طِينِ الشَّوَارِعِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ فَمِهَا بِغَيْبَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ، وَكَأَنَّ السَّائِلَ تَوَهَّمَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ الْمَنْقُولُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْهِرَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَخْتَلِطُ بِالنَّاسِ وَغَيْرِهَا إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً، ثُمَّ غَابَتْ وَاحْتُمِلَ فِي الْعَادَةِ وُلُوغُهَا فِيمَا يُطَهِّرُ فَمَهَا بِأَنْ يَكُونَ كَدَرًا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِذَا غَابَتْ وَاحْتُمِلَ طُهْرُ فَمِهَا كَمَا ذُكِرَ، ثُمَّ عَادَتْ وَوَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ مَائِعٍ، أَوْ مَسَّتْ بِفَمِهَا ثَوْبًا مَثَلًا فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ مَا لَاقَى فَمُهَا، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى نَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا.

وَإِنَّمَا لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ مَا لَاقَى فَمَهَا مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ أَعْنِي الْفَمَ عَمَلًا بِالْأَصْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا مَسَّتْهُ الطَّهَارَةُ، وَالْأَصْلُ فِي فَمِهَا النَّجَاسَةُ، وَلَكِنْ بِغَيْبَتِهَا ضَعُفَ أَصْلُ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ التَّنْجِيسُ فَبَقِيَ مَا مَسَّتْهُ عَلَى طَهَارَتِهِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ كَطِينِ الشَّوَارِعِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُتَيَقَّنَةً فِيهِمَا؛ لِأَنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهِ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهَا لَكِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَمَّا يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ مَلْحَظُ الْعَفْو فِيهِ، وَأَمَّا فَمُ الْهِرَّةِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: نَجِسٌ لَمْ يُنَجِّسْ لِضَعْفِهِ بِاحْتِمَالِ زَوَالِهِ بِالْوُلُوغِ فِي مَاءٍ يُطَهِّرُهُ عِنْدَ الْغَيْبَةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النَّجِسُ الَّذِي أَكَلَهُ نَحْوَ الْهِرَّةِ مُغَلَّظًا أَوْ غَيْرَهُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُغَلَّظِ احْتِمَالُ وُلُوغِهِ فِي مَاءٍ كَدِرٍ بِتُرَابٍ يَكْفِي فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ وُلُوغُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُنَجِّسْ مَا وَلَغَ فِيهِ، وَلَا مَا مَسَّهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ غَلَّاتُ أَوْقَافٍ مُتَّحِدَةُ الْمَصَارِفِ أَوْ مُخْتَلِفَتُهَا مِنْ شَخْصٍ أَوْ أَشْخَاصِ، فَوَضَعَ غَلَّاتِهَا فِي مَوَاضِعَ فَالْتُبِسَتْ عَلَيْهِ فَهَلْ يَسُوغُ لَهُ التَّحَرِّي فِيهَا فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَلَوْ تَحَرَّى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ، هَلْ يَضْمَنُ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْوَدِيعَةَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَلَّاتِ الْمُشْتَبِهَةِ، هَلْ يَمْلِكُهَا النَّاظِرُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفَهُ فِيهَا قَبْلَ الضَّمَانِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ الْغَلَّاتُ الْمَذْكُورَةُ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِيهَا إذَا كَانَ نَاظِرًا عَلَيْهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَبِهَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِصِحِّيَّةِ التَّصَرُّفِ وَيُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ لِلْعَلَامَةِ فِيهَا مَجَالًا فَشُرِعَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ بِعَلَامَةٍ تُغَلِّبُ ظَنَّ الْمِلْكِ فِي الْمَأْخُوذِ.

وَغَلَبَةُ الظَّنِّ كَافِيَةٌ فِي الْأَمْوَالِ بِدَلِيلِ اعْتِمَادِهِ عَلَى خَطِّ أَبِيهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ بِدَيْنٍ وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ جَازَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَالَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ أَصْلِ الْحِلِّ فِي أَحَدِهِمَا اهـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّاظِرِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِّرُوا بِالْمِلْكِ فِي قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ الْمِلْكَ، وَقَوْلُهُمْ: يُغَلِّبُ ظَنَّ الْمِلْكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ قُلْت: التَّعْبِيرُ بِالْمِلْكِ، إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ الشَّامِلِ لِمِلْكِ الْعَيْنِ، وَلِلْوِلَايَةِ عَلَيْهَا وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مِلْكَ الْعَيْنِ فَقَطْ، وَكَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَطَ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ هُوَ عُمُومُ الْأَوَّلِ لَا خُصُوصُ الثَّانِي.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُمْ: وَغَلَبَةُ الظَّنِّ كَافِيَةٌ فِي الْأَمْوَالِ أَيْ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمَّا سَأَلَ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّنْ اشْتَرَى بَيْضَةً مِنْ رَجُلٍ وَبَيْضَةً مِنْ آخَرَ، وَوَضَعَهُمَا فِي كُمِّهِ فَانْكَسَرَتْ إحْدَاهُمَا فَخَرَجَتْ مَذِرَةً فَعَلَى مَنْ يَرُدُّهَا؟

قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ اُتْرُكْهُ حَتَّى يُدْعَى قَالَ: يَقُولُ: لَا أَدْرِي قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَقُولُ لَهُ انْصَرِفْ حَتَّى تَدْرِيَ فَإِنَّا مُفْتُونَ لَا مُعْلِمُونَ وَهُوَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي أَنْ لَا يُجْتَهَدَ فِي بَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرُدَّهَا بِالِاجْتِهَادِ قُلْت: لَا يُنَافِي مَا قَرَّرْتُهُ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُمْنَعْ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِذَاتِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ لَمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْغَيْرِ بِالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ قَالَ: وَمِثْلُهُ لَوْ قَبَضَ مِنْ شَخْصٍ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا نُحَاسًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>