غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ قَرِيبًا مِنْ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ:
(أَوْ ظَنَّهُ ظَنًّا مُؤَكَّدًا) يُشِيرُ لِذَلِكَ، وَاعْتِبَارُهُمْ لِجَوَازِ الْقَذْفِ الطَّرَفَ الْمَذْكُورَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُطْلَقُ الظَّنِّ، بَلْ ظَنٌّ خَاصٌّ غَالِبٌ وَهُوَ يَنْشَأُ عَنْ الطَّرَفِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ اهـ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ بَالِغٌ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُمْ فِي بَابِ الْآنِيَةِ: لَوْ تَحَيَّرَ الْأَعْمَى قَلَّدَ بَصِيرًا فَإِنْ فَقَدَ الْبَصِيرَ تَيَمَّمَ الْأَعْمَى، مَا ضَابِطُ الْفَقْدِ هُنَا؟ هَلْ يُضْبَطُ بِمَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ فِي فَقْدِ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَمَا هُوَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقْدِ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ كَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ عَدَمُ وُجُودِ مُخْبِرٍ لَهُ حَالَةَ التَّحَيُّرِ فَلَا يُكَلَّفُ طَلَبَهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ فِي الْمَاءِ بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ أَنَّهُ يُحَصِّلُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَرْقًا بَيْنَ تَوَهُّمِ الْمَاءِ وَتَوَهُّمِ الْبُرْءِ.
وَلَيْسَ الْغَالِبُ فِي طَلَبِ الْمُقَلِّدِ تَحْصِيلَهُ بِالْوَصْفِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ بِفَرْضِ وُجُودِهِ قَدْ يَتَحَيَّرُ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالطَّلَبِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ وَاكْتُفِيَ فِي تَيَمُّمِهِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ وُجُودِهِ حَالَةَ التَّحَيُّرِ، نَعَمْ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ إنْسَانًا حِينَئِذٍ سَأَلَهُ وَهَلْ يَجِبُ سُؤَالُهُ احْتِيَاطًا أَوْ لَا يَجِبُ؟ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَيَّرُ أَيْضًا كُلٌّ مُحْتَمَلٌ وَيُتَّجَهُ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَا مَشَقَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يُؤَخِّرْ إلَى أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ، لَعَلَّهُ يَجِدُ مَنْ يُقَلِّدُهُ؟ قُلْت: فِي صَبْرِهِ لِذَلِكَ مَشَقَّةٌ بَلْ وَخَشْيَةُ فَوَاتٍ بِطَرْقِ مَوْتٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلَمْ يُكَلَّفْهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ بَحْثُ مَنْ بَحَثَ فِي الْبَصِيرِ الْمُتَحَيِّرِ وَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِمَا الصَّبْرَ إلَى ضِيقِ الْوَقْتِ ضَعِيفًا كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْت: الْبُرْءُ فِعْلُ اللَّهِ فَكَيْفَ قِيلَ: بِوُجُوبِ طَلَبِهِ أَوْ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ، أَيْ بَلْ يَنْدُبُهُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، قُلْت: الْمُرَادُ بِطَلَبِ الْبُرْءِ الْكَشْفُ عَنْهُ هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِعْلَ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ إيجَادُ الْبُرْءِ لَا هُوَ، بَلْ هُوَ أَثَرُهُ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْمَاءِ فَإِيجَادُهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَوُجُودُهُ أَثَرُ فِعْلِهِ فَكَمَا قَالُوا فِيهِ بِالطَّلَبِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْبُرْءِ.
[بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ]
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ كَرَاهَةِ الْبَوْلِ تَحْتَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ هَلْ تَخْتَصُّ بِمَا إذَا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَقَعُ عَلَى مَكَانِهَا قَبْلَ الثَّمَرَةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْت فِي شَرْحِي لِلْإِرْشَادِ وَمُخْتَصَرِهِ مَا يُصَرِّحُ بِهِ حَيْثُ قُلْت وَيُكْرَهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ تَحْتَ شَجَرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثْمِرَ وَلَوْ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الثَّمَرَةِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّلْوِيثِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتَعَافُهَا الْأَنْفُسُ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَأْتِي تَحْتَهَا مَا يُزِيلُ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّمَرَةِ فَلَا كَرَاهَةَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِسْنَوِيُّ بَحْثًا فَقَالَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ تَحْتَ شَجَرَةٍ تُسْقَى قَبْلَ طُلُوعِ الثَّمَرَةِ اهـ.
وَوَجْهُهُ حُصُولُ الْأَمْنِ مِنْ التَّلْوِيثِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَرَّرَ وَيَكْفِي فِي حُصُولِهِ اطِّرَادُ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، فَاسْتِبْعَادُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي جِهَةٍ لَا يَحْصُلُ السَّقْيُ مِنْهَا أَوْ بِطَرْقِ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ الْبَوْلِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إذْ الصُّورَةُ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَادَةً مَجِيءُ الْمَاءِ إلَى مَحَلِّ الْبَوْلِ فَيُطَهِّرُهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ التَّنْجِيسَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَبَحْثُ الرَّافِعِيِّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْبَوْلِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِفُّ وَقَدْ يَخْفَى فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْغَائِطِ اهـ. حَاصِلُ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْمَحَلِّ عَنْ الشَّرْحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْجَوَابُ عَمَّا فِي السُّؤَالِ، ثُمَّ تَعْطِيلُ الرَّافِعِيِّ كَوْنَ كَرَاهَةِ الْبَوْلِ أَشَدَّ بِمَا ذُكِرَ قَدْ يُنَازَعُ فِيهِ وَيُقَالُ: بَلْ كَرَاهَةُ الْغَائِطِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَةَ فِيهِ أَشَدُّ أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النُّفُوسِ لَا تَعَافُ أَكْلَ الَّذِي غُسِلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَتَكْرَهُ أَكْلَ مَا تَلَوَّثَ بِالْغَائِطِ وَإِنْ غُسِلَ وَأُمْعِنَ فِي غَسْلِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا صُورَتُهُ قَوْلُهُمْ: إذَا هَبَّتْ رِيحٌ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ شِمَالِهَا جَازَ مُحَاذَاتُهَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّ مُحَاذَاةَ الْقِبْلَةِ حَرَامٌ، وَمُحَاذَاةَ الرِّيحِ مَكْرُوهَةٌ، وَلَوْ فِي حَالِ هُبُوبِهَا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَعِبَارَتُهُ:
(يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الرِّيحِ بِالْبَوْلِ فَكَيْفَ جَازَ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ لِاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّمَا جَازَ الِاسْتِقْبَالُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَهُ يَعُودُ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ، وَهُوَ عَوْدُ الرَّشَاشِ عَلَيْهِ الْمُنَجِّسِ لِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ؛ فَسَقَطَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ: مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ عَوْدُ رَشَاشٍ يُنَجِّسُهُ وَإِلَّا حُرِّمَ