للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشَّبَهِ الْبَيِّنِ لِعُتْبَةَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» فَانْظُرْ إلَى أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفِرَاقِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَبِالِاحْتِجَابِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَرَعًا وَخَشْيَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ عَلَى تَقْدِيرٍ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَإِنْ أَلْغَاهُ الشَّرْعُ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ اجْتِنَابُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِأَنَّ مَا يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ فِيهَا أَوْلَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ فِي تَيْنِك لِأَنَّ مَا يَحْتَمِلُهَا فِيهِمَا مُلْغًى شَرْعًا وَمَا يَحْتَمِلُهَا فِي مَسْأَلَتِنَا غَيْرُ مُلْغًى شَرْعًا وَانْظُرْ أَيْضًا إلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْصِلْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَاءُ فِي الْأُولَى وَعَدَمُ الِاحْتِجَابِ فِي الثَّانِيَةِ وَسِيلَةً لِطَاعَةٍ كَعِفَّةِ الزَّوْجِ بِهَا مَعَ عَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى غَيْرِهَا وَكَجَبْرِ خَاطِرِ الْوَلَدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَعَدَمِ تَأَذِّيهِ بِالِاحْتِجَابِ عَنْهُ وَإِنْ لَا وَمِثْلُ هَذَا لَهُ حُكْمُ الْعَامِّ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ قَوْلِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَلَا يُعَارِضُهُ قَاعِدَتُهُ الْأُخْرَى إنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال لِأَنَّ هَذِهِ فِي الْوَقَائِعِ الْفِعْلِيَّةِ وَتِلْكَ فِي الْوَقَائِعِ الْقَوْلِيَّةِ كَمَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ

فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْوَرَعُ فِي تَرْكِ شَيْءٍ كَانَ الْأَوْلَى وَالْمُتَأَكَّدُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ وَسِيلَةً لِطَاعَةٍ أَمْ لَا وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنَا أَنْ نُلْحِقَهَا بِالْحَشِيشَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَأْتِي إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ مُنْذُ قُرُونٍ لَمَّا حَدَثَتْ الْحَشِيشَةُ فِي زَمَانِهِمْ بَالَغُوا فِي اخْتِبَارِ أَحْوَالِ آكِلِيهَا حَتَّى اتَّفَقَتْ أَقْوَالُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ، أَوْ مُخَدِّرَةٌ وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْعَارِفُونَ بِعِلْمِ الطِّبِّ وَالنَّبَاتَاتِ فَحَكَمُوا فِيهَا بِمَا اقْتَضَتْهُ الْقَوَاعِدُ الطِّبِّيَّةُ وَالتَّجْرِيبِيَّة فَلِذَا سَاغَ لَهُمْ الْجَزْمُ فِيهَا بِالتَّحْرِيمِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَتَحَصَّلْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِتَبَايُنِ الْأَقْوَالِ وَاخْتِلَافِهَا فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَمُسْتَعْمِلُوهَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَخْبَار عَنْ حَقِيقَتِهَا وَهَذَا هُوَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا مَعَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا تَخْدِيرًا، أَوْ إسْكَارًا فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْوَاقِعِ فَالْقَائِلُونَ بِالْحِلِّ اعْتَمَدُوا الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهَا بِوَجْهٍ وَالْقَائِلُونَ بِالْحُرْمَةِ اعْتَمَدُوا الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّ فِيهَا ضَرَرًا وَأَنْتَ إذَا رَاعَيْت الْقَوَاعِدَ لَمْ يَجُزْ لَك أَنْ تَعْتَمِدَ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ وَتُعْرِضَ عَنْ الْآخَرِ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدَك مُرَجِّحٌ آخَرُ مِنْ نَحْوِ وُجُوهِ التَّجْرِبَةِ وَشُرُوطِهَا السَّابِقَةِ أَوْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَلَمْ نَظْفَرْ بِذَلِكَ فَلِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا التَّوَقُّفُ فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَأَنْ نَقُولَ مَتَى أَنْ ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ جَوْزَةِ الطِّيبِ، أَوْ الْحَشِيشَةِ الْمَعْرُوفَةِ حُرِّمَتْ وَإِلَّا فَلَا.

وَهَذَا يَسْتَدْعِي ذِكْرُ أَوْصَافِهِمَا لِتُقَاسَ بِهِمَا تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَأَقُولُ أَمَّا جَوْزَةُ الطِّيبِ فَقَدْ اسْتَفْتَيْت عَنْهَا قَدِيمًا وَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَظَفِرْتُ فِيهَا بِمَا لَمْ يَظْفَرُوا بِهِ فَإِنَّ جَمْعًا مِنْ مَشَايِخِنَا وَغَيْرِهِمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا وَكُلٌّ لَمْ يُبْدِ مَا قَالَهُ فِيهَا إلَّا عَلَى جِهَةِ الْبَحْثِ لَا النَّقْلِ وَلَمَّا عُرِضَ عَلَيَّ السُّؤَالُ أَجَبْت فِيهَا بِالنَّقْلِ وَأَيَّدْتُهُ وَتَعَرَّضْت فِيهِ لِلرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الْأَكَابِرِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَصُورَةُ السُّؤَالِ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ مُقَلِّدِيهِمْ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ جَوْزَةِ الطِّيبِ، أَوْ لَا وَهَلْ يَجُوزُ لِبَعْضِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْأَخْذُ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى نَقْلٍ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ يَجِبُ الِانْقِيَادُ وَالِامْتِثَالُ لِفُتْيَاهُ أَمْ لَا فَأَجَبْت بِقَوْلِي الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَاعْتَمَدُوهُ وَنَاهِيك بِذَلِكَ بَلْ بَالَغَ ابْنُ الْعِمَادِ فَجَعَلَ الْحَشِيشَةَ مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ الْمَذْكُورَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْ الْقَرَافِيِّ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إنْكَارِهِ الْحَشِيشَةَ بَيْنَ كَوْنِهَا وَرَقًا أَخْضَرَ فَلَا إسْكَارَ فِيهَا بِخِلَافِهَا بَعْدَ التَّحْمِيصِ فَإِنَّهَا تُسْكِرُ.

قَالَ وَالصَّوَابُ إنَّهُ لَا فَرْقَ؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِجَوْزَةِ الطِّيبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَنْبَرِ وَالْأَفْيُونِ وَالشَّيْكَرَانِ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْبَنْجُ وَهُوَ مِنْ الْمُخَدِّرَاتِ الْمُسْكِرَاتِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ فِي تَكْرِيمِ الْمَعِيشَةِ اهـ.

فَتَأَمَّلْ تَعْبِيرَهُ وَالصَّوَابُ جَعْلُهُ الْحَشِيشَةَ الَّتِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لِإِسْكَارِهَا وَتَخْدِيرِهَا مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مِرْيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْجَوْزَةِ لِإِسْكَارِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>