للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَلِكَ وَمُؤَسِّسَهُ وَالدِّينُ الْقَيِّمُ وَالشَّرِيعَةُ الْوَاضِحَةُ الْغَرَّاءُ الْبَيْضَاءُ غَنِيَّةٌ عَنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِي الْقِيَامِ بِهَا إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الْمَهَالِكِ زَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَنْزِيهَ الْقَائِمِينَ بِهَا عَنْ هَذِهِ الْأَدْنَاسِ وَالْقَاذُورَاتِ وَوَفَّقَ لِلْقِيَامِ بِهَا فِي هَذَا الْقُطْرِ تَبَرُّعًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْضَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوآتِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي قَبُولُ مَا نُذِرَ لَهُ أَوْ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَلَا قَبُولُ هِبَةٍ.

أَوْ هَدِيَّةٍ بِتَفْصِيلِهَا الْمَعْرُوفِ فِي مَحَلِّهَا. وَقَدْ اسْتَوْفَيْته أَتَمَّ اسْتِيفَاءٍ وَبَسَطْته أَحْسَنَ بَسْطٍ وَضَبَطْته أَكْمَلَ ضَبْطٍ فِي كِتَابِي الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي ذَلِكَ لَمَّا جَاءَنِي أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْيَمَنِ وَسَمَّيْته إيضَاحُ الْأَحْكَامِ لِمَا يَأْخُذُهُ الْعُمَّالُ وَالْحُكَّامُ وَلِلْقَاضِي حُضُورُ الْوَلَائِمِ وَالْأَوْلَى لَهُ التَّنَزُّهُ عَنْهَا.

(وَسُئِلَ) عَنْ قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ يُشَدِّدُ عَلَى النَّاسِ وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِالْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَلَا يُزَوِّجُ مَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهُنَّ إلَى بُلُوغِ سِنِّ الْيَأْسِ وَلَا يَسْلُكُ بِالنَّاسِ مَسْلَكَ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَقَالَ أَيْضًا «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» ؟

(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ مَا ذُكِرَ عَنْ هَذَا الْقَاضِي إنَّمَا يُعَدُّ مِنْ مَحَاسِنِهِ لَا مِنْ مَسَاوِيهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ خَيْرًا فَإِنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ الْآنَ وَكَيْفَ وَأَكْثَرُ قُضَاةِ هَذَا الْعَصْرِ وَمَا قَبْلَهُ بِأَعْصَارٍ صَارُوا خَوَنَةً مَكَسَةً لَا يُحَرِّمُونَ حَرَامًا وَلَا يَجْتَنِبُونَ آثَامًا بَلْ قَبَائِحُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ تُشْهَرَ حَتَّى قَالَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ قُضَاةِ زَمَنِهِ إنَّهُمْ كَقَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي قُضَاةِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ فَمَا بَالُك بِقُضَاةِ هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي عُطِّلَتْ فِيهِ الشَّعَائِرُ وَغَلَبَتْ فِيهِ الْكَبَائِرُ وَقَلَّ فِيهِ الصَّالِحُونَ وَكَثُرَتْ فِيهِ الْمُفْسِدُونَ فَقِيَامُ هَذَا الْقَاضِي حِينَئِذٍ بِقَوَانِينِ مَذْهَبِهِ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ إلَى التَّرْخِيصِ لِلنَّاسِ بِمَا لَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ إمَامِهِ يَدُلُّ عَلَى صَلَاحِهِ وَنَجَاحِهِ وَفَلَاحِهِ وَعَجِيبٌ مِنْ السَّائِلِ كَيْفَ يُورِدُ فِي مِثْلِهِ حَدِيثَ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورَ.

فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ فَهْمِهِ لِلْحَدِيثِ وَإِحَاطَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مِثْلَ هَذَا الْقَاضِي بَلْ مِثْلَ الْقُضَاةِ الَّذِينَ شَرَحْنَا شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ وَبَيَّنَّا قَبِيحَ فِعَالِهِمْ إذْ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ جَارَ فِي حُكْمِهِ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَكَلَّفَهُمْ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ الشَّارِعُ وَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ مَعَهُمْ أَمْرَ الشَّرْعِ وَعَدَلَ فَهُوَ مَدْعُوٌّ لَهُ لَا عَلَيْهِ وَهَذَا أَمْرٌ وَاضِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَمَعْنَى «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» النَّهْيُ عَنْ التَّعْسِيرِ عَلَى النَّاسِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الشَّارِعُ وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا إذَا اخْتَلَفَ تَرْجِيحُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالشَّيْخَيْنِ مَا الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

(فَأَجَابَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ لَمَّا كُنَّا مُجَاوِرِينَ سَنَةَ خَمْسِينَ بِطَيْبَةَ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى مُشَرِّفِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ سَأَلَنَا بَعْضُ أَكَابِرِهَا وَفُضَلَائِهَا عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَطَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ وَالِانْتِصَارِ لِاعْتِمَادِ تَرْجِيحِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَجَبْته بِجَوَابٍ مَبْسُوطٍ مُتَكَفِّلٍ لِرَدِّ جَمِيعِ أَدِلَّتِهِ وَفِي الِانْتِصَارِ لِاعْتِمَادِ تَرْجِيحِ الشَّيْخَيْنِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ ثُمَّ قُرِئَ ذَلِكَ الْإِفْتَاءُ بِحَضْرَةِ فُضَلَاءِ الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَنْ يُبْدِيَ فِيهِ شَيْئًا بَلْ وَافَقُوهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي خُطْبَةِ شَرْحِ الْعُبَابِ وَبَيَّنْت فِيهِ أَنَّ الْحَقَّ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ مَشَايِخُنَا وَمَشَايِخُهُمْ وَهَلُمَّ جَرًّا مِنْ اعْتِمَادِ تَرْجِيحِ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْإِفْتَاءِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ وَلَا بِالنَّصِّ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيَّنْت فُرُوعًا اعْتَرَضُوا فِيهَا عَلَيْهِمَا بِالنَّصِّ ثُمَّ لَمَّا أَمْعَنْت التَّفْتِيشَ رَأَيْتهمَا اسْتَنَدَا لِنَصٍّ آخَرَ وَفُرُوعٍ أُخْرَى وَهِيَ الْأَكْثَرُ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِمَا فِيهَا بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ.

مَعَ أَنَّهُمَا صَرَّحَا فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّهُمَا لَا يَتَقَيَّدَانِ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ بَلْ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُمَا مِنْ قُوَّةِ الْمُدْرَكِ أَوْ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ فَإِنَّ مَنْ يَعْتَرِضُ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ رُبَّمَا عَدَّدَ جُمَلًا تَرْجِعُ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ أَوْ اثْنَيْنِ مَثَلًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ شَيْخَ الطَّرِيقَيْنِ قَدْ بَلَغُوا مِنْ الْكَثْرَةِ مَبْلَغًا عَظِيمًا. فَمَنْ رَأَى كُتُبَهُمْ وَفَتَاوِيَهُمْ مُتَّفِقَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ يَظُنُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَيْهِ وَفِي الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ رَأْيُ رَجُلٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>