مُسَافِرًا أَوْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُصَادِفْ وَقْتَ الضُّحَى عِنْدَهَا إلَّا نَادِرًا، وَمَا رَأَتْهُ صَلَّاهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ النَّادِرَةِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْته وَلَا يُنَافِيه أَنْ يَبْلُغَهَا بِإِخْبَارِهِ أَوْ إخْبَارِ غَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا، وَلِذَلِكَ وَرَدَ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّاهَا.
وَمِمَّا يَتَّضِحُ بِهِ هَذَا الْمَقَامُ خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ لَا يَدَعُهَا وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ لَا يُصَلِّيهَا فَمَنْ نَفَى لَمْ يَطَّلِعْ إلَّا عَلَى تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي كَانَ يَتْرُكُهَا فِيهَا» وَأَمَّا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْت الْمَسْجِدَ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ الضُّحَى فِي الْمَسْجِدِ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ فَقَالَ بِدْعَةٌ.
فَأَجَابَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَعِيَاضٍ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ إظْهَارَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَالِاجْتِمَاعَ لَهَا هُوَ الْبِدْعَةُ لَا أَنَّ أَصْلَ صَلَاتِهَا بِدْعَةٌ وَلَمَّا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا صَحِيحٌ غَيْرُ مُتَدَافِعٍ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ رَآهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الضُّحَى أَرْبَعًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ فِي حَالِ فِعْلِهِ ذَلِكَ فَقَطْ وَرَآهُ غَيْرُهُ فِي حَالٍ أُخْرَى صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ وَرَآهُ غَيْرُهُ فِي حَالَةٍ أُخْرَى صَلَّاهَا سِتًّا وَهَكَذَا أَوْ سَمِعَهُ وَاحِدٌ يَحُثُّ عَلَى عَدَدٍ. وَآخَرُ عَلَى عَدَدٍ آخَرَ فَأَخْبَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَمَّا رَأَى وَعَمَّا سَمِعَ وَكَذَلِكَ مَنْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا قَطُّ إنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُ عَمَّا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَلَا يُدْفَعُ قَوْلُ مَنْ عَلِمَهُ يُصَلِّيهَا بِرُؤْيَتِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَمْ يُصَلِّهَا لَيْسَ خَبَرًا مِنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَمْ أُصَلِّهَا قَطُّ، وَلَا أُصَلِّيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ خَبَرُ «مَنْ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ صَلَّاهَا أَرْبَعًا» الْحَدِيثُ السَّابِقُ وَفِي رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضُّحَى يَوْمًا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَوْمًا أَرْبَعًا ثُمَّ يَوْمًا سِتًّا ثُمَّ يَوْمًا ثَمَانِيًا ثُمَّ تَرَكَ يَوْمًا.» فَقَدْ أَبَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ صِحَّةَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ احْتِمَالِ خَبَرِ كُلِّ مُخْبِرٍ أَنْ يَكُونَ إخْبَارُهُ عَلَى قَدْرِ مَا شَاهَدَهُ أَوْ سَمِعَهُ اهـ.
(سُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ إنَّ الْإِيتَارَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ أَفْضَلُ مِنْ الْإِيتَارِ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ كَمَا قَالَ فَمَا سَبَبُ قِلَّةِ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَفِي الْحَدِيثِ «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ» فَهَلْ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ أَفْضَلُ أَوْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ.
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِقَوْلِهِ: مَا ذُكِرَ مِنْ تَفْضِيلِ الثَّلَاثِ عَلَى الْخَمْسِ مَثَلًا. لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ وَكَأَنَّ قَائِلَهُ نَظَرَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَصِحُّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَفْضِيلُ الثَّلَاثِ عَلَى الْأَحَدَ عَشَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ بَلْ صَحَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَلَا تُشَبِّهُوا الْوِتْرَ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ» وَبِهَذَا يُعْلَمُ ضَعْفُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْيِينِ الثَّلَاثِ وَكَوْنِهَا مَوْصُولَةً لِمُخَالَفَتِهِ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَلِمَا صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْإِيتَارِ بِخَمْسٍ وَبِسَبْعٍ وَبِتِسْعٍ مَوْصُولَةٍ وَمَفْصُولَةٍ وَبِثَلَاثٍ، وَأَخَذَ السُّبْكِيّ وَتَبِعَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَسَبَقَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الثَّلَاثِ. أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِيتَارُ بِثَلَاثٍ مَوْصُولَةٍ وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْفَصْلُ فِي كُلِّ عَدَدٍ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصْلِ قَالَ السُّبْكِيّ: وَحِينَئِذٍ فَالثَّلَاثُ الْمَوْصُولَةُ أَدْنَى مَرَاتِبِ أَعْدَادِ الْوِتْرِ فِي الْفَضِيلَةِ وَالْإِحْدَى عَشْرَ الْمَفْصُولَةُ أَعْلَاهَا وَكُلُّ عَدَدٍ مَفْصُولٍ أَفْضَلُ مِنْهُ وَمِمَّا دُونَهُ مَوْصُولًا وَلَوْ تَعَارَضَتْ زِيَادَةُ الْعَدَدِ وَالْفِعْلِ كَخَمْسٍ مَوْصُولَةٍ مَعَ ثَلَاثٍ مَفْصُولَةٍ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي النَّظَرُ إلَى زِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ دُونَ الْفَصْلِ فَتُرَجَّحُ الْخَمْسُ الْمَوْصُولَةُ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ اهـ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَعَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ. وَضَعَّفَ قَوْلَ الْمَجْمُوعِ عَنْ الْإِمَامِ وَأَقَرَّهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ، وَالْخِلَافُ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَصْلِ بِثَلَاثٍ أَمَّا فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا فَالْفَصْلُ أَفْضَلُ قَطْعًا اهـ وَأَقُولُ الْأَوْجَهُ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَوْصُولَةَ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ الْعَمَلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute