مَعْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ يُسَنُّ تَرْكُ التَّرَفُّعِ فِي اللِّبَاسِ الْمُبَاحِ بِأَنْ لَا يَلْبَسَ أَرْفَعَ الْجِنْسِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ لُبْسُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَتَرَفُّعِهَا بِهِ عَلَى غَيْرِهَا وَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَإِنَّمَا السُّنَّةُ لُبْسُ أَوْسَطِ الْجِنْسِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ لُبْسُهُ بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ لُبْسُ الْخَشِنِ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ لِخَبَرِ النَّسَائِيّ «إذَا أَعْطَاك اللَّهُ مَالًا فَكَثِّرْ أَثَرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْك وَكَرَامَتِهِ» وَلِأَنَّ الْخَشِنَ ثَوْبُ الشُّهْرَةِ كَالرَّفِيعِ أَمَّا لُبْسُ الْخَشِنِ وَالْمُزْرِي مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّفِيعِ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَهَضْمِ النَّفْسِ وَاقْتِدَائِهَا بِزُهَّادِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَبِسُوا الشِّمَالَ وَالْخَشِنَ فَهُوَ مَحْبُوبٌ. كَمَا أَنَّ لُبْسَ الرَّفِيعِ لِلْعُلَمَاءِ مَحْبُوبٌ بِقَصْدِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِمْ وَإِشَارَاتِهِمْ وَإِجْلَالِ الْعِلْمِ وَإِيقَاعِ هَيْبَتِهِ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ لِيَتَلَقَّى عَنْهُمْ مَا بَرَزَ مِنْهُمْ مِنْ الْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي وَالزَّوَاجِرِ وَالتَّغْلِيظَاتِ وَقَدْ لَبِسَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ زِيَّ الزُّهَّادِ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ فَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَى عَنْ مُنْكَرٍ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ.
فَقِيلَ لَهُ: لَسْت مِنْ أَهْلِ الْإِنْكَارِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ الْعُلَمَاءُ فَلَبِسَ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ كَالطَّيْلَسَانِ وَذَوَاتِ الْأَكْمَامِ الْوَسِيعَةِ وَنَحْوِهَا فَامْتُثِلَ أَمْرُهُ وَخُضِعَ لِقَوْلِهِ فَعُلِمَ أَنَّ مَصْلَحَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْهَضْمِ الَّذِي لَا يُمْتَثَلُ مَعَهُ أَمْرٌ فَرَجَعَ إلَى لُبْسِ شِعَارِ الْعُلَمَاءِ عَمَلًا بِأَرْجَحِ الْمَصْلَحَتَيْنِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ اقْتَصَرَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَرْكَانِ بِأَنْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، اتَّقُوا اللَّهَ وَقَرَأَ آيَةً وَفِي الثَّانِيَةِ أَتَى بِالثَّلَاثَةِ وَبِيَرْحَمُكُمْ اللَّهُ هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ حَتَّى فِي صَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا إذَا قَرَأَ الْخَطِيبُ آيَةً فِي الْخُطْبَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهَا وَلَا قَصْدِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ كَأَنْ يَقْرَأَ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: ٥٦] الْآيَةَ أَوْ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: ٩٠] الْآيَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْآيَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْوَعْظِ أَوْ غَيْرِهِ هَلْ يُجْزِئُ عَنْ الْآيَةِ أَوْ لَا؟ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا شَيْئًا وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْخَطِيبِ أَنْ يَكُونَ مُتَذَكِّرًا لِفَرْضِهَا حِينَ الْقِرَاءَةِ أَمْ لَا.
وَإِذَا تَرَكَ الْخَطِيبُ الْآيَةَ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى وَجَلَسَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا قَامَ تَذَكَّرَ وَقَرَأَ الْآيَةَ مُوَافَقَةً لِعَادَتِهِ ثُمَّ جَلَسَ لِلْفَصْلِ فَهَلْ يَقْطَعُ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ مُوَالَاةٌ الْخُطْبَةِ الْأُولَى أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ وَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَلَا نِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ وَجَزَمَ بِهِ أَيْضًا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي فَتَاوِيهِ.
وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهَا أَذْكَارٌ وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ وَقِرَاءَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ لِأَنَّهُ مُمْتَازٌ بِصُورَتِهِ مُنْصَرِفٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحَقِيقَتِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ تَصْرِفُهُ إلَيْهِ وَهَذَا أَوْجَهُ مِمَّا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ الْقَاضِي مِنْ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَإِنْ جَزَمَ بِهِ فِي الْأَنْوَارِ كَالْأَذْرَعِيِّ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الرَّوْضَةِ مُشِيرٌ إلَى ضَعْفِ كَلَامِ الْقَاضِي بَلْ الْقَاضِي نَفْسُهُ إنَّمَا فَرَّعَهُ كَمَا فِي الْمُهِمَّاتِ عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ أَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ انْتَهَتْ وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْآيَةِ فِي الْخُطْبَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي وُقُوعِ الِاعْتِدَادِ بِهَا عَنْهَا نِيَّةُ كَوْنِهَا مِنْهَا. بَلْ يَكْفِي الْإِتْيَانُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا لِانْصِرَافِهَا إلَيْهَا بِلَا نِيَّةٍ كَمَا تَقَرَّرَ نَعَمْ الشَّرْطُ عَدَمُ الصَّارِفِ بِأَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَ الْخُطْبَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَيْضًا وَالتَّاسِعُ أَنْ يَعْلَمَ الْخَطِيبُ وَاجِبَهَا أَيْ الْخُطْبَةِ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِظَاهِرٍ بَلْ الَّذِي يَظْهَرُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِفَرْضٍ مُعَيَّنٍ النَّفْلِيَّةَ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا وَاجِبَاتٍ وَأَتَى بِهَا وَلَمْ يَقْصِدْ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا أَنَّهُ نَفْلٌ صَحَّتْ عَلَى قِيَاسِ الصَّلَاةِ بِالْأَوْلَى. اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَطِيبِ أَنْ يَكُونَ مُتَذَكِّرًا لِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ حِينَ قِرَاءَتِهِ الْآيَةَ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا النَّفْلِيَّةَ وَفِيهِ أَيْضًا بَعْدَ قَوْلِ الْمَتْنِ: الْخَامِسُ أَيْ مِنْ الْأَرْكَانِ قِرَاءَةُ آيَةٍ مُفْهِمَةٍ فِي إحْدَى الْخُطْبَتَيْنِ وَتُجْزِئُ كَمَا فِي الْأُمِّ وَغَيْرِهَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا وَبَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا إمَّا فِي الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةِ وَالثَّابِتُ الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ دُونَ تَعْيِينٍ نَعَمْ تُسَنُّ فِي الْأُولَى كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ. اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَطِيبِ لِلْآيَةِ فِيمَا ذَكَرَ آخِرَ السُّؤَالِ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّهَا لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الثَّانِيَةَ مَحَلٌّ لَهَا كَالْأُولَى وَأَنَّهُ مُخْطِئٌ بِالْجُلُوسِ الثَّانِي فَلَا يَضُرُّ إنْ كَانَ جَاهِلًا وَقَصُرَ الْفَصْلُ وَإِلَّا ضَرَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute