للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

«إنَّ اللَّهَ لَيَبْتَلِي الْمُؤْمِنَ وَمَا يَبْتَلِيهِ إلَّا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَعُدَّ الْبَلَاءَ نِعْمَةً وَالرَّخَاءَ مُصِيبَةً» جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنَيْنِ وَأَلْحَقَنَا بِأَحْبَابِنَا مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ مَعَ دَوَامِ رِضَاهُ وَغَايَةِ نِعْمَتِهِ إنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ مَعْنَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ الْخَيْرَ وَيُوَفِّقُهُ لَهُ أَوْ يَحْصُلُ مُرَادُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ مُجَرَّدُ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُ فَلَوْ ظَنَّ لَمَّا رَأَى أَحْوَالَهُ مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُنْتَظِمَةٍ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِي إلَّا كَذَا وَكَذَا فَهَلْ هَذَا مِنْ عَدَمِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا وَمَا مُؤَدَّاهُ الْحَقِيقِيُّ إذَا أُطْلِقَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي الزَّوَاجِرِ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَعِبَارَتُهُ الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَقَالَ تَعَالَى عَزَّ قَائِلًا {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} [الحجر: ٥٦] .

(تَنْبِيهٌ) عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا وَقَعَ لِلْجَلَالِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مِنْ التَّلَازُمِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَفِي مَعْنَى الْآيِسِ الْقَنُوطُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْهُ لِلتَّرَقِّي إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: ٤٩] اهـ وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَبْلَغُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ وَزِيَادَةُ التَّجْوِيزِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ لَا تَلِيقُ بِكَرَمِهِ وُجُودِهِ.

وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهُ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ وَقُلْت قَبْلَ ذَلِكَ الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] وَقَالَ تَعَالَى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: ٥٣] وَقَالَ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦] وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءَ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْت لَك يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ - أَيْ بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ مِلْئِهَا خَطَايَا - ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ كَيْفَ تَجِدُك قَالَ أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ» .

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبَّنَا، فَيَقُولُ: لِمَ، فَيَقُولُونَ: رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي» وَالشَّيْخَانِ «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي» الْحَدِيثَ.

وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي

<<  <  ج: ص:  >  >>