مَنْعُ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ، وَمَنْعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ أَمَّا الْخُرُوجُ لِعَارِضٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الْفِرَارُ مِنْهُ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُومَ عَلَيْهِ، وَالْخُرُوجَ عَنْهُ فِرَارًا أَيْ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارِ مِنْهُ اهـ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَمَّا الْخُرُوجُ عَنْهُ لِعَارِضٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَنَّ الْخُرُوجَ بِقَصْدِ التَّدَاوِي جَائِزٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْ قَوْلِهِ: وَالْخُرُوجُ عَنْهُ فِرَارًا أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ لِأَجْلِ الْفِرَارِ فَمَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْحُرْمَةُ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ، وَبِذَلِكَ يُرَدُّ قَوْلُ التَّاجِ السُّبْكِيّ: لَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِيمَنْ خَرَجَ فَارًّا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ شَيْءٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِلتَّدَاوِي اهـ.
وَوَجْهُ رَدِّهِ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ خُرُوجَهُ لِلتَّدَاوِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَائِزًا بِلَا خِلَافٍ كَمَا أَفَادَهُ كَلَامُ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَمِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَنْ خَرَجَ لِلْفِرَارِ كَمَا أَفَادَهُ كَلَامُ شَرْحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا نَعَمْ إنْ اقْتَرَنَ بِقَصْدِ الْفِرَارِ قَصْدُ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ، وَأَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الْمُنَجِّي لَهُ فَوَاضِحٌ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بَلْ كُفْرٌ اتِّفَاقًا بِخِلَافِ قَصْدِ الْفِرَارِ فَقَطْ فَإِنَّهُ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَقَدْ مَرَّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَأْيِيدٌ لِلْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفِرَّ مِنْ مَحَلِّ الطَّاعُونِ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ اعْتَرَضَ مَا مَرَّ عَنْ التَّاجِ السُّبْكِيّ فَقَالَ عَقِبَ مَا مَرَّ عَنْهُ هَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لِلتَّدَاوِي لَيْسَ حَرَامًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَجَمَاعَةٍ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْخُرُوجَ حَرَامٌ فَكَيْفَ مَحَلُّهُ مَا إذَا خَرَجَ لِلتَّدَاوِي، وَالْخُرُوجُ لِلتَّدَاوِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ الْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ يَقُولَ: مَحَلُّ النِّزَاعِ فِيمَا إذَا خَرَجَ فَارًّا مِنْ الْمَرَضِ الْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَوْ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ لَأَصَابَهُ، وَأَنَّ فِرَارَهُ لَا يُنْجِيه لَكِنْ يَخْرُجُ مُؤَمِّلًا أَنْ يَنْجُوَ هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَمَنْ مَنَعَ احْتَجَّ بِالنَّهْيِ، وَمَنْ أَجَازَ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ اهـ.
وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِشُغْلٍ عَرَضَ لَهُ أَوْ لِلتَّدَاوِي مِنْ عِلَّةٍ بِهِ طَعْنٌ أَوْ غَيْرُهُ فَلَا يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ لَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَوْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ لِلْخُرُوجِ، وَانْضَمَّ لِذَلِكَ قَصْدُ الْفِرَارِ فَاَلَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُ أَئِمَّتِنَا فِي فُرُوعٍ مُتَعَدِّدَةٍ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُحَرَّمِ وُجِدَ، وَانْضِمَامُ الْقَصْدِ الْجَائِزِ لَهُ لَا يَمْنَعُ إثْمَهُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَرَأَ الْجُنُبُ بِقَصْدِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ، وَمَا لَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: ١٢] أَوْ {سُبْحَانَ اللَّهِ} [المؤمنون: ٩١] بِقَصْدِ الْقُرْآنِ، وَتَنْبِيهِ الْغَيْرِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ نَظَرًا لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ قَصْدُ الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك أَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ قَصْدُ الْفِرَارِ أَوْ الْحَاجَةُ أَوْ يَتَسَاوَيَا فَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَحَلُّ النَّظَرِ إلَى قُوَّةِ الْبَاعِثِ، وَضَعْفِهِ فِيمَا إذَا جَازَ الْقَصْدَانِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ، وَالْآخَرَ يَقْتَضِي عَدَمَهُ كَقَصْدِ الْوُضُوءِ، وَالتَّنْظِيفِ أَوْ التَّبَرُّدِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ هُنَا لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ إنَّمَا هُوَ رَأْيُ الْغَزَالِيِّ.
وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ يُغَلِّبُ قَصْدَ نَحْوِ التَّبَرُّدِ هُنَا، وَإِنْ ضَعُفَ فَلَا ثَوَابَ عِنْدَهُ مُطْلَقًا، وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْخُرُوجِ تَعَبُّدِيٌّ؛ لِأَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْمَهَالِكِ مَأْمُورٌ بِهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهُوَ لِسِرٍّ لَا نَعْلَمُهُ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ إمَّا بِالطَّاعُونِ إذَا وَقَعَ فِي الْبَلَدِ عَمَّ جَمِيعَ مَنْ فِيهِ بِمُدَاخَلَةِ سَبَبِهِ فَلَا يُفِيدُهُ الْفِرَارُ مِنْهُ بَلْ إنْ كَانَ أَجَلُهُ قَدْ حَضَرَ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَإِنْ رَحَلَ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ أَقَامَ فَتَعَيَّنَتْ الْإِقَامَةُ لِمَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَإِمَّا بِأَنَّ النَّاسَ لَوْ تَوَارَدُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَبَقِيَ مَنْ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ عَاجِزًا عَنْ الْخُرُوجِ فَضَاعَتْ الْمَرْضَى لِفَقْدِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُمْ، وَالْمَوْتَى لِفَقْدِ مَنْ يُجَهِّزُهُمْ.
وَإِمَّا بِأَنَّ خُرُوجَ الْأَقْوِيَاءِ فِيهِ كَسْرٌ لِقُلُوبِ مَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْخَارِجَ يَقُولُ: لَوْ لَمْ أَخْرُجْ لَمُتُّ، وَيَقُولُ الْمُقِيمُ: لَوْ خَرَجْت لَسَلِمْت، فَيَقَعُونَ فِي اللَّوْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ مَا فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْفِرَارِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا فِي الْإِقَامَةِ مِنْ الْأَجْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute