ثم يُحْجبُ عنهم، فهذا وقْعُه عليهم أشدُّ من الذين لم يُعْطُوا نورًا مِنَ الأصْلِ.
إذا قالَ قائلٌ: هذه الرُّؤيَةُ كيفَ تُقِرُّونَها وتؤمنون بها مع أن اللَّه جَلَّ وَعَلَا يقولُ لموسَى: {لَنْ تَرَانِي}[الأعراف: ١٤٣]، ويقول:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: ١٠٣].
فالجوابُ: أن قولَهُ لموسَى: {لَنْ تَرَانِي} جواب لقولِ مُوسَى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وهو يريدُ رؤيةَ ربِّه الآن، ولهذا قال:{انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}[الأعراف: ١٤٣]، فدَلَّ هذا على أن نَفْي الرُّؤَيةِ في ذلك الوقتِ، وهذا حَقٌّ، فإن اللَّه جَلَّ وَعَلَا لا يُرَى في الدُّنْيَا لعَجْزِ الإنسان عن تَحمُّلِ ذلك، وقد ضَربَ اللَّه لرَسولِه موسَى -صلى اللَّه عليه وسلم- مَثلًا بالجبلِ، فإنَّ اللَّه تعالى لما تَجَلَّى للجبلِ جَعلَهُ دَكًّا وخرَّ موسى صَعِقًا.
أما قوله عَزَّ وَجَلَّ:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، فهي إلى الدَّلالَة على ثُبوتِ الرؤية أقربُ من الدَّلالةِ على نَفْي الرؤية، لأن اللَّه -جل ذكره- لم يَقُلْ: لا يُرَى، بل قال:{لَا تُدْرِكُهُ} ونَفْيُ الأخَصِّ لا يدُلُّ على نَفْي الأعَمِّ؛ لأن الإدراكَ أخصُّ من مُطلَقِ الرُّؤيةِ، وهذه قاعِدةٌ معروفةٌ عندَ أهلِ العِلم.
فهنا نقول: إن الآية تَدلُّ على أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرَى؛ لأنه لو لم يُرَ لقال: لا تَراهُ الأبصارُ، فلما قال:{لَا تُدْرِكُهُ} عُلِمَ أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرَى لكن لا يُدرَك، ونحن نقول:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} حتى في الآخرة، فإنه لا يُمكِنُ الإحاطةُ باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، لكنَّه يُرَى.
وضَرْبُ المثل لا بأس به لكن مع الفَرْقِ: ألَسْنَا نرَى الشمسَ ولا نُدْرِكُهَا؟ بل نَرى أصغرَ حيوانٍ بالعين ومع ذلك لا ندرك ما فِيه مما خلَق اللَّه في جوفِه أو في جِلْدِهِ.