الجواب على هذا: أولًا: ينْبَغِي أن نَعْرِفَ أن أهلَ السُّنَّةِ والجماعَةِ -جعلنا اللَّه منهم- صارَ لهم أحْوالٌ وأوْقاتٌ يُنَزِّلون كلَّ حالٍ وكلَّ وقتٍ منْزِلَتَهُ.
ثم هم ابتلوا بقومٍ يقولون: إن كلامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هو المعنى القائمُ بالنَّفْسِ، وهذا القولُ في الحقيقة نفيٌ لكلامِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فاضْطَرَّ أهلُ السُّنَّةِ أن يقولوا:"بحرفٍ وصوتٍ" تأْكِيدًا لمعنى الكلامِ فقط، فهم مضْطَرُّونَ لمقابلةِ هؤلاء، ولهذا لما قيلَ للإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنهم يأْتُونَ بكلماتٍ لأجلِ دفعِ إيهامِ القَولِ بما يقُولُه أهلُ الباطِلِ، لو سَكَتَ السَّلَفُ وقالوا:"القرآنُ كلامُ اللَّهِ" فقط، صارَ في هذا إيهامٌ، حتى إن الإمامَ أحمدَ سُئلَ عن رجلٍ يقولُ: إن اللَّه معنا، ولا أزيد على هذا؟ قال: قَدْ تَجَهَّمَ؛ لأن الجهمية كانوا يُضِلُّونَ الناسَ، أحيانًا يُصَرِّحُونَ ويقولون: إن اللَّه مَعَنَا بذاتِهِ في الأرض، وأحيانًا يقولن: إن اللَّه مَعَنا، لأجل أن يهْرَبُوا مِنْ إثارَةِ الناسِ عليهم، فهم يتَسَتَّرُون بمثل هذا الشيءِ.
وكذلك السَّلَفُ يقولون: إن اللَّه استَوى على العَرْش بذاتِهِ، وقولهم:"بذاتِهِ" ليست موجودة في الكِتابِ والسُّنَّة؛ لأنهم لو قالوا: استَوى على العَرْشِ، وسكَتُوا، لقال لهم أولئك المحرفون: نعم هو عَلا على العرشِ لكن عُلُوًّا معْنَويًّا، فيكون (استوى) بمعْنَى (استَوْلَى)، فاحتاجَ السلَفُ أن يقولوا:"بذاتِهِ".
كذلك عَبَّرَ بعْضُهُمْ في حديثِ النُّزُولِ:"يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا"(١) فقالوا: بذاتِهِ؛ دَفْعًا لتَحريفِ من قالوا: ينزلُ أَمْرُهُ أو مَلَكٌ من ملائِكَتِهِ
(١) أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، رقم (١٠٩٤)؛ ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل. . .، رقم (٧٥٨) عن أبي هريرة.