للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المضَرَّةِ، لكنه مُعْتَمِدٌ عليه على أنه أعْلى مِنْهُ، فإن هذا نوعٌ مِنَ الشِّرْكِ الأصغرِ، مثل اعتمادِ كثيرٍ من الناسِ الآن على رَواتِبِ الدَّولَةِ وما أشبه ذلك، فكونك تَعْتَمِدُ على الدولة على أنها مصدرُ رِزْقِكَ، فإن هذا نوعٌ مِنَ الشركِ الأصغر لأن الدولَةَ ليستْ إلا مجردَ سَببٍ، ولهذا من كان على هذا الحالِ تَجِدُه يُرَاعي المُتَوكَّل عليه ويخَافُه وربما يَتْرُكُ ما أَوْجَبَ اللَّه عليه مُراعَاة لَهُ ومُدَاهَنَةً، أو يَفْعَلُ ما حرَّمَ اللَّه عليه منْ أجْلِهِ.

أما القِسْمُ الثالثُ: فهو الاعتمادُ على الغَيْرِ لا على سَبيلِ الخشْيَةِ والخوفِ والرَّغْبَةِ ولا على سَبيلِ أنه يَشْعُرُ أنه أعْلى مِنْهُ، بل على سَبيلِ أنك أنْتَ الَّذِي فوقَهُ وأنت الذي تُدَبِّرُهُ فتَعْزِلُ وتُنَصِّبُ، فهذا جائز ولا حرجَ فيه، وقد وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فإنه كان يَبْعَثُ السعاةَ تَوْكيلًا لهم على مَا يُرِيدُ، فهذا لا بأسَ بِهِ.

وهذا القِسْمُ يحصُلُ عن طريقِ الوِكَالَةِ، فعِنْدَمَا أُوَكِّلُ إنسانًا أن يَشْتَرِيَ لي شَيئًا أو يَبِيعَ لي شَيئًا وما أشْبَه ذَلِكَ، فأنا معتَمِدٌ عليه في هذا الأمرِ، لكن ليس على سَبيلِ الاحْتِياجِ إليه وأنه أعْلَى مِنِّي، بل على العَكْسِ؛ على سبيل الاعتقادِ بأنِّي أعْلَى منه، لا سِيَّما إذا كان بِعِوَضٍ، وأن الأمرَ إليَّ بشَأْنِهِ إن شئت عَزَلَتُ وإن شئت نَصبت.

وقد أجمعَ العلماء على جوازِ التَّوكِيلِ بالبَيْعِ والشِّراءِ وغير مما تَدْخُلُ فيه الوِكالَةُ، والمراد من قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} القِسْمُ الأوَّلُ والثاني بنَوْعَيْهِ، فإنهم لا يعْتَمِدُونَ على أحدٍ سِوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ في جَلْبِ المنَافِعِ ودَفْعِ المضَارِّ.

واعلم أن التَّوَكُّلَ أحدُ شَقَّي الدِّينِ، فإن الدين مُكَوَّنٌ منْ أمْرَيْنِ: من عِبَادَةٍ واسْتِعَانَةٍ، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥]، وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: ١٢٣]، وهذا كثيرٌ في القُرآنِ؛ لأن العبادةَ

<<  <   >  >>