للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فوضَعَه لها ثانية، فلما تَيقَّنَتْهُ ذهبت ودَعَتْهُم، فلما أقْبَلُوا رَفَعَه، ثم بدأتْ تطلُبُه ورَجَعوا، ثم وضَعه في المرة الثالثة وذهبت ودَعَتْهُم فلمَّا رفَعَه ولم يجِدُوه قتَلُوها.

يقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: فذكرتها لشيخنا شيخ الإِسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ فقال: إن الكَذِبَ لا يُحِبُّه أحدٌ، حتى النَّمْلَةُ لما كَذَبْتَ عليهم وأتَتْ بهم مِن بيوتِهِمْ واستَفْزَعَتْهُم قتلُوهَا (١).

فهذه الدوابُّ الضَّعِيفَةُ التي لا تستطيع أن تحمِلَ رِزْقَها يقومُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى برِزْقِها؛ لأن اللَّه تعالى قال في كتابه عن نَفسِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦].

وقوله: {دَابَّةٍ} دابَّةٌ: نكِرَةٌ في سياقِ النَّفْي المُؤكَّدِ عُمومِه بـ (مِنْ) الزائدة، فأي دابَّةٍ في الأرض على اللَّهِ رِزْقُهَا ويعْلَمُ مستَقَرَّهَا ومستَوْدَعَهَا كذلك، وليست الدوابُ كلها تَرْتِزَقُ من شيء واحد، بل بعْضُهَا يناسِبُه هذا وبعضها لا يناسبه، وأيًا كان فإن اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُقَدِّرُ لها الرزقَ المناسب لها، ومع ذلك يعلم جَلَّ وَعَلَا مسْتَقَرَّهَا ومستَوْدَعَها، يعني: محل استقرَارِها ومحلَّ استِيدَاعِهَا.

فالمستَقَرُّ: ما تَؤُولُ إليه في يومِ القِيامَةِ، والمستودعُ: الدُّنيَا والبَرْزَخُ الذي بين الدنيا والآخرة؛ لأنَّ الإنسانَ يكون فيه بمَنْزِلَةِ الوَدِيعَةِ يبْقَى زَمَانًا ثم ينتقِلُ.

لو قال قائلٌ: إن قولَهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} يحتَمِلُ الأمْرَيْنِ: أي لا تَحْمِلُ رِزْقَها لضَعْفِها، وكذلك: لأنها لا تَسْتَطِيعُ التَكَسُّبَ؟

فالجواب: لا تحتملُ الآيةُ الأمْرَيْنِ، فليس بصوابٍ أن نَقولَ: لا تَحْمِلُ رِزقَهَا


(١) شفاء العليل (ص: ٦٩، ٧٠).

<<  <   >  >>