للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واعلم أن العبادةَ تنْقسمُ إلى قسمين:

أوَّلًا: الخضوعُ للأمرِ الكَونِيِّ؛ وهذه عامَّةٌ لكل أحَدٍ، كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: ٩٣]، كُلُّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ من مؤمنٍ وكافِرٍ وبارٍّ وفاجِرٍ، كلهم يأتُونَ اللَّه تعالى بهذا الوصفِ.

وهل من هذا قوله تعالى يخاطِبُ إبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: ٤٢]؟

الجواب: إن قلنا الاستِئْنَاءُ متَّصَلٌ فهو منهم، أي: إبليس، وإن قُلنا: منْقَطِعٌ فليس منهم، أي: إن جعلنا الاستِثْنَاءَ متَّصِلًا فإن المرادَ العبوديةُ العامَّة، التي لا يُستَثْنَى منها أحدٌ، فكلُّ الخلْقِ خاضِعونَ لأمرِ اللَّهِ الكَونِيِّ، ولا أحدَ يقْدرُ أن يدفْعَ المرضَ أو الموتَ عن نفسه، ومنه قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: ٩٣]، وإن جعلناه منْقَطِعًا فالمرادُ هو النَّوعُ الثاني مِنَ العُبودِيَّةِ.

النوع الثاني: العُبودِيَّةُ الخاصَّةُ، وهي التَّذَلُّلُ لأمرِ اللَّه الشرعيِّ، ومنها قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: ٦٣]. فهؤلاءِ تَذَلَّلُوا للأمرِ الشَّرْعِيِّ، وهنا في الآية الكريمةِ قال إبراهيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اعْبُدُوا اللَّهَ}، فهو يريدُ التَّعَبُّدَ للَّه بالعبادةِ الشَّرعيةِ.

قوله: {وَاتَّقُوهُ} عَطْفًا على قولِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ}، والعَطفُ كما قِيلَ: يقْتَضِي المغَايَرةَ، ونحنُ ذكرنَا أن العِبادَةَ هي التَّذَلُّلُ للَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالطاعةِ.

و(التقوى): اتِّخَاذُ وقايَةِ مِنْ عذابِهِ بطاعتِهِ، وعلى هذين التَّفْسِيرينِ يكون عطفُ التَّقْوى على العبادةِ من بابِ عطفِ الشَّيءِ على نَفْسِهِ، والمعروفُ أن بلاغَةَ القرآنِ

<<  <   >  >>