المجتهدين أمرَ مستفتيه أن لا يعمل بفتواه إلّا مدةَ حياته، فإذا ماتَ استفتى غيرَه، بل هذا مما لا ريبَ في عدمه، فهو إجماعٌ أرجح من الإجماع [ص ١٧٠] الذي نقلتم عن الغزالي. بل فوقَ ذلك لم يكن كل أحدٍ من أهل البوادي يذهب يستفتي المجتهدَ رأسًا، بل كان يذهب بعضهم فيستفتي أحدَ المجتهدين، ثم يرجع فيُخبر أهلَه وجيرانَه وغيرهم، فيعملون بمقتضاها، وربما أخبر أولادَه فأخبروا أولادهم، واتصل العمل بذلك زمنًا طويلًا. وعلى هذا كان العمل في تلك العصور.
فالجواب أولًا: أننا أسلفنا أن أخْذَ القاصر بقول المجتهد في عدم المعارِض إنما هو من العمل بالرواية، غاية ما فيه أنها رواية لا يجوز العمل بمثلها إلا للضرورة، وعلى هذا فلا تقليدَ هناك، فعملُ القاصر بذلك بعد وفاةِ المجتهد ليس من تقليد الميت في شيء، كما أن عمله بذلك في حياته ليس في شيء من تقليد الحي.
ثم إن عمل غيره من أهله وجيرانه بما أخبرهم به إنما هو عملٌ بالرواية، فهو يذكر لهم ما ذكره له المجتهد من الآية وتفسيرها، أو الحديث وترجمته على سبيل الرواية الصحيحة، ثم يذكر لهم إخبارَ المجتهد له أنه لا معارضَ لذلك على سبيل الرواية الجائزة للضرورة، فيجوز لهم العمل بروايته الصحيحة والاضطرارية، كما جاز له العمل برواية المجتهد كذلك. فإن أبيتم إلّا تسمية العمل الاضطراري بهذه الرواية تقليدًا فقد أسلفنا أننا قد نسلِّم ذلك، ولكنه لا يلزم من جواز هذا النوع من التقليد اضطرارًا جواز مطلق التقليد. وهكذا نقول هنا: لا يلزم من جواز هذا النوع من تقليد الميت جوازُ مطلق التقليد.