للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصوب رأيه، لما في ذلك من القربة إلى الله - تعالى - ولو وقع مثل ذلك في زماننا لكان حكمه كذلك.

ثم قال: وإنما عمل بالظنون في موارد الشرع ومصادره، لأن كذب الظنون نادر وصدقها غالب ولو ترك العمل بها خوفًا من وقوع نادر كذبها لتعطلت مصالح كثيرة غالبة خوفًا من وقوع المفاسد قليلة نادرة. وإنما ذم الله - تعالى- العمل بالظن في موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم لمعرفة الإله ومعرفة صفاته. والفرق بينهما ظاهر. والحاصل أن معظم مصالح الواجب والمندوب والمباح مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية. وأن معظم مفاسد المحرم والمكروه مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية فإن قيل: ما تقولون في قوله - تعالى: - {إن بعض الظن إثم}.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". قلنا: إنّ الآية لم ينه فيها عن كل ظن، وإنما نهى فيها عن بعضه وهو أن يبنى على الطن ما لا يجوز بناؤه عليه مثل أن يظن بإنسان أنه زنى أو سرق أو قطع الطريق أو قتل نفسًا أو أخذ مالًا أو ثلب عرضًا فأراد أن يظن بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه، وأراد أن يشهد عليه بذلك بناء على ظنه المذكور فهذا هو الإثم. وتقدير الآية: {اجتنبوا كثيرًا من (اتباع) الظن، إن اتباع بعض الظن إثم}. ويجب تقدير هذا، لأن النهي عن الظن مع قيام أسبابه المثيرة له لا يصح، لأنه تكليف لاجتناب ما لا يطاق اجتنابه، إذ لا يمكن الظان دفعه عن نفسه مع قيام أسباب، ولن يكلف الله نفسًا إلاّ وسعها.

وأما الحديث: فإنّ التقدير فيه: إياكم واتباع بعض الظن وإنما قدر ذلك لإجماع المسلمين على وجوب اتباع الظن فيما ذكرناه، وكان قد ذكر لذلك صورًا وأمثالًا كثيرة وكذلك جواز اتباعه فيما أردناه. واتباع هذه الظنون المذكورة سبب لفلاح الدنيا والآخرة وإن ظنًا هذه عاقبته خير من علم لا يجلب خيرًا ولا يدفع ضرًا فأكرم به من ظن موجب (لرضا) الرحمن، وسكنى الجنان: وربما كان (كثير) من العلوم مؤديًا إلى سخط الديان وخلود النيران انتهى.

<<  <   >  >>