فصل (٤٦): قال العلامة ابن القيم: وللعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه احد عشر مشهدًا.
المشهد الأول: القدر: وهو أن يعلم أن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد، والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار، فإن الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء كان ووجب وجوده ومالم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا، استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
المشهد الثاني: مشهد "الصبر فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة. وعلم إن لم يصبر اختيارًا على هذا -وهو محمود - صبر اضطرارًا على أكثر منه وهو مذموم.
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته. فإنه مازاد الله عبدًا يعفو إلا عزًا. كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود. وما أنتقم أحد لنفسه إلا ذل، هذا وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
المشهد الرابع: وهو مشهد الرضا وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله. فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته رضيت بما نالها في الله. وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره. ومتى تسخط به أو تشكي منه كان دليًلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قال منشد:
من أجلك جعلت خدي أرضًا .. للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرضى بما يصيبه في سبيل رضا وحبوبه فلينزل عن جرة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن.
المشهد الخامس: مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء بالإحسان فيحسن إليه كما أساء هو إليه. ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد