ومن أحسن ما تقل في العفو، ما ذكر أبو الفرج بن الجوزي. قال: كنا نجلس إلى الوزير أبي المظفر عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي فيملي علينا كتابه "الإفصاح" فبينما نحن كذلك إذ قدم رجل ومعه رجل ادعى عليه أنه قتل أخاه. فقال له "عون الدين" أقتلته؟ قال: نعم، جرى بيني وبينه كلام فقتلته. فقال الخصم: سلمه إلينا، لنقتله فقد أقر بالقتل. فقال الوزير: أطلقوه ولا تقتلوه. قالوا: كيف ذلك وقد قتل أخانا، قال: أفتبيعونه فاشتراه منهم بستمائة درهم وسلم الذهب إليهم، وذهبوا وقالوا للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، قال: فجلس عندهم وأعطاه الوزير خمسين دينار. قال: فقلنا له: أحسنت إلى هذا، وعملت معه أمرًا عظيمًا، وبالغت في الإحسان إليه، فقال الوزير منكم أحد يعمل أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئًا؟ فقلنا: معاذ الله- تعالى- فقال: بلى، والله أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا. قال: هذا الذي خلصته من القتل جاء إلي وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه ومعه سلة فاكهة. فقال: أحمل هذه السلة. فقلت له: ما هذا شغلي فاطلب غيري، فشاكلني وكلمني فقلع عيني ومضى فلم أره بعد ذلك إلى يومي هذا فذكرت ما صنع لي فأردت أن أقابل إساءته إلي بالعفو والإحسان مع القدرة. ولبعضهم:
قوم إذا ظفروا بنا ... جادوا بعتق رقابنا
وأتي عمر بن عبد العزيز- رحمة الله عليه- برجل كان قد نذر إن أمكنه الله منه ليفعلن به وليفعلن. فقال له رجاء بن حيرة: قد فعل الله ما تحب من الظفر فافعل ما يحب من العفو.
وأنشدوا:
يعطي الكريم ولا يملك من العطا ... والدفع شيمته إذا رفع الخطا
قال عبد الله بن المبارك: كنت عند أبي جعفر عبد الله المنصور جالسًا فأمر بقتل رجل. فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله: من كانت له عند الله يد فليتقدم، فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب) فأمر بإطلاقه.
وقال صالح ابن الإمام أحمد: دخلت على أبي يومًا، فقلت: بلغني أن رجلًا أتى إلى أبي فضل الأنماطي فقال له: اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك. فقال: فضل: لا جعلت