المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جدًا، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله، وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد امتحانًا بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور.
ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل:" لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين وقال له: ما جاء أحد بمثل ما جاءت به إلا عودي. وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم صلى الله عليه وسلم.
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده الأمثل فالأمثل.
ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأي الجهال لهم، وقد صنف في ذلك ابن عبد البر كتابًا سماه "محن العلماء".
المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرت العين به والأنس به والاطمئنان إليه وسكن إليه وأشتاق إلى لقائه واتخذه وليًا دون ما سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكيل عليه عن كل ما سواه، فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة. فضًلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة. فهذا لايكون إلا من قلب ليس فيه مايغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان. فإذا رأى أي طعام هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وأما من امتلأ قلبه بأغلى الأغذية وأشرفها فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. انتهى.
فالآمر الناهي - أيده الله- تعالى إذا عامل الناس بمقتضى هذه المشاهد من إقامة أعذارهم والعفو عنهم والصبر عليهم وترك مقابلتهم، اشتدت محبتهم له وكان ذلك سببًا لنجاتهم الأخروية والدنيوية إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم وينهاهم عنه أحسن التلقي.
أنا خوا بباب الطبيب طلبًا للشفاء وصبروا رجاء العافية على شرب الدواء فإن ابتلوا صبروا. وإن أعطوا شكروا فالأمر على السواء، ربحوا والله ما خسروا وعاهدوا على الصبر فما غدروا واحتالوا على نفوسهم فملكوا واسروا فخاطبهم ربهم بقوله:{إني جزيتهم اليوم بما صبروا} فينبغي للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر حينئذ أن يوطن نفسه على احتمال