وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرًا غير ذي موضوع في زماننا هذا ويكون أمرًا نظريًّا محضًا فلا ينبغي إطالة القول فيه.
٣ - إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره - صلى الله عليه وآله وسلم - والتمسح بها وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة - وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه - إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد تلك الغزوة رغَّبَ المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك وصرَفَهم عنه وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله - عز وجل - وأجدى.
وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قُرَاد سدد خطاكم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تَوَضَّأَ يَوْمًا فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟». قَالُوا:«حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ». فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهَ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا اؤْتُمِنَ، وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ». (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
«مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟» أي التمَسُّح، وكان هذا من المعلوم الواضح عنده أنه للتبرك الناشىء عن حسن الاعتقاد في الله ورسوله، فالسؤال لإظهار ما يترتب على الجواب. قَالُوا:«حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ» أي الحامل، أو حملنا. فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ» أي على وجه الكمال. «أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»(أو) للتنويع، أو بمعنى بل، وهو الأظهر، ويحتمل شك الراوي. «فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهَ» أي في حديثه. «إِذَا حَدَّثَ» أي متى تكلم وتحدث. «وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ» أي مجاورة جيرانه ومعاشرة أصحابه وإخوانه؛ فإن هذه الأوصاف من أخلاق المؤمنين، وأضدادها من علامات المنافقين؛ فالمدار على الأفعال الباطنة دون الأحوال الظاهرة، فكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - نبههم على أن جملة همتهم يجب أن تكون على أمثال هذه الأخلاق دون الاكتفاء بظواهر الأمور المشترك فيها المؤمن والمنافق والمخالف والموافق.